amazigh النائب
عدد المساهمات : 210 نقاط : 585 السٌّمعَة : 3 تاريخ التسجيل : 04/07/2009 العمر : 30 الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1
| موضوع: ذات الوجه الشاحب الإثنين نوفمبر 30, 2009 7:29 pm | |
| ذات الوجه الشاحب
تتوزع بعشوائية جذابة، في وجهها الأبيض الشاحب، حبوب صغيرة، تظهر بوضوح إذ اعترته صفرة المرض التي لا تقلل من بهاء الوجه الحسن.
شحوب وجهها الفاتن، أخذ ينسحب بهدوء تشتته ضربات قلبها الذي كاد ينفجر بين أضلاعها ـ أول مرة في ربيع حياتها ـ حين وضع كفه الخشنة على ظهرها النحيل، ولفح دفء أنفاسه طراوة خدها.
بتؤدة تحسست بلسانها المرتجف شفتيه اللتين مازال عالقاً بهما أثر تبغه الحاذق.
في تلك المدة على قصرها، زال شحوب وجهها الذي عرفت به منذ بلوغها، بل عندما همس بأذنها المزينة بقرط على شكل حلقات متداخلة قائلاً:
ـ على الأقل.. فكي أزرار قميصك.
احمر وجهها من شدة الخجل، فبدت أجمل بكثير، حتى أنها لم تعرف نفسها للوهلة الأولى عندما حدقت في المرآة التي تحاذي كتفها المغطى بشعرها الأسود الطويل الناعم، الذي أكسبته الحناء بريقاً داكن الحمرة، فظنت أن إحداهن تختبئ خلف المرآة لتختلس النظر إليها، كي تشي بها إلى جميع من تعرفهم.
لم ترفض طلبه رفضاً قاطعاً، إلا لأنها رأت وجهها قد صار أجمل بكثير، وإن كل الناس سيتحدثون عن وجهها الوردي بإعجاب وحسد كبيرين.
لكن رغم إلحاحه، واحتجاجه، لم تفك بأناملها المرتعشة من شدة الانفعال، سوى الأزرار العلوية من قميصها الضيق الذي يشف عن حمالة نهدين ذات لون مغاير للون القميص الأبيض النظيف؛ وهي تحاول دون جدوى، طرد الحياة من الباب المقفل، أو من النافذة التي أسدلت عليها ستارة لفحتها الشمس، فبهت لونها منذ سنوات.
* * *
لم تكن تدري وقتها أن الليالي التي ينغرس فيها الشك تطول دونما رحمة، فالأرق لا يتعب، أو يستكين إلى النعاس. حتى أن الدموع المالحة كادت تمحو مذاق قبلاته، وتجعلها باردة، كزجاج نافذتها التي ينسل عبرها نور القمر، فيؤنس وحشتها قليلاً، لبعض الوقت.
* * *
جلست بوجل قرب أمها، وهي تتأمل الشجرة الوحيدة في أرض الدار، تلك التي بدأت أوراقها الخضراء تفقد لونها، وتهوي نحو الأسفل لعدم قدرتها على الطيران كالعصافير التي تحط على أغصانها لبعض الوقت، ثم ترحل بعيداً نحو سماء لا حدود لها.
وهي تتأمل غياب خفوق الأجنحة الصغيرة في فضاء سماء بدأت زرقتها الصافية تكمد، ويخبو نورها. تنبهت إلى أن ثمة خطاً أبيض ـ يشبه الغيم ـ يحاول أن يشطر السماء إلى نصفين دون جدوى، لأن آخره ينفلش متلاشياً، فيبدو كجرح متجدد، ينزف هواء رطباً ينهمر متطايراً في كل اتجاه مع الريح العابثة التي تشتت هشيم الأوراق الهشة، حيث تتفتت حينما تصطدم الأشياء الصلبة من حولها.
لملمت شجاعتها المبعثرة بين حجرات المنزل منذ طفولتها، ثم سألت أمها بصوت حيي، بالكاد يسمع:
ـ هل تصبح الفتاة أماً.. إذا قبّل من تحبه.. نهديها؟!
لم يكن يخطر لأمها، حتى في كوابيسها السوداء المرعبة، أن تسألها ابنتها الصغيرة هذا السؤال الذي أنكرته تماماً، فقذفت من حجرها طبق القش الذي ورثته عن جدتها، فتناثر العدس ـ الذي كانت تفرزه عن الشوائب ـ على تراب وطأته الأقدام منذ أجيال، فارتص وعجز عن الإنبات.
تسابق الدجاج إلى التقاط حبوب العدس، غير معني بولولة الأم المفجوعة بابنة تمنت موتها للتو، أو آبه بسكين المطبخ الذي لمع نصله الحاد في يد ولدها الكبير، صاحب الشارب الكث المعقوف، فوق شفتين ترسلان البصاق، على وجه كاد الذعر يمحو ملامحه الشابة تماماً.
* * *
ذات الوجه الشاحب فرت مذعورة من البيت، دون أن يخطر في بالها أن تنتعل الحذاء الجديد الذي خبأته للمشاوير، أو تضع الكحل في عينيها النجلاوين.
ركضت حافية القدمين، ودون أن تشعر بالأشواك التي انغرست في لحمها، وتكسرت فيه. فخلفت خطواتها الضيفة. خيطاً أحمر، على شكل نقاط صغيرة فقدت حرارتها سريعاً على الدرب الذي سارت عليه بغبطة منذ أيام ليست بعيدة.
* * *
عندما قرعت باب من تحب، لم يفتح حبيبها. وعندما نظرت من نافذته، لمحت بصعوبة فتاة ذات وجه وردي، وهي تخلع فستاناً ليس فيه زر واحد.
* * *
عادت إلى المنزل منكسة الرأس، دون أن تعيد بأصابعها النحيلة خصلات شعرها المتطاير مع الريح الشاردة، فلقد كانت أصابعها المنتهية بأظافر مطلية بالأحمر الداكن تتحسس بحنو رقبتها الدافئة برغم برودة المساء الخريفي الذي أخفى تماماً قلادتها الذهبية التي تكاد تزهو بها دائماً بين رفيقاتها في حفلات الأعراس وهي ترقص فرحاً، وتحلم بأن تجلس يوماً ما، في الأيام القليلة القادمة، بثوبها الأبيض إلى جانب من تحب. بينما أخوها يرقص بكل طاقته، متحدياً من يقدر على منافسته، وهو يزهو بشاربه الكث. وأمها تزغرد بفخر، وهي توزع الحلوى على الأولاد المشاكسين. والصبايا اللواتي أخذن يرتدين فساتين لها أزرار براقة على الصدور الناهدة.
* * *
عندما أحست برودة نصل السكين، وبدمائها الدافئة تراق على وجهها الذي زاد شحوبه، وفقد دفئه.. تذكرت أنها كثيراً ما قطعت بالسكين ذاته الباذنجان والبطاطا لتقليها في الزيت الحار، وأيضاً كانت تقطع بالسكين ذاته البندورة إلى دوائر متناسقة، والبصل اليابس، كي تضعه بجانب الدجاج المشوي الذي كان يذبحه أخوها، فقد كان يأكل اللحم المطهو بشهية وبتلذذ.
شعرت بمفارقة غريبة، وأحست برغبة عميقة في أن تطلق ضحكة قوية من تلك الضحكات التي كانت أمها تقول عندما تسمعها (اخرسي فضحتنا) وقد تعقبها ببصاقها من فمها الأدرد على الأرض.
حاولت أن تحرك وجهها الشاحب حتى الرعب، على الرغم من آلام رقبتها، ومن اليد التي تمسك بقوة وثبات شعرها الناعم من الخلف، فرأت ببقايا بصر متلاش، أمها التي تنتف بقايا شعرها الأشيب، فابتسمت لها عفوياً، وهي تعرف جيداً أن أمها أعمتها المصيبة عن رؤية أي شيء آخر، لهذا لن ترى شفتي ابنتها اللتين أكسبهما الدم الطازج حمرة مالحة.
ولكنها لا تملك غير هذه المواساة الأخيرة، فهي تحب أمها التي لم تصرخ بوجه زوجها، حتى عندما كسرت يدها التي تتقي بها عكازه الذي ظل يضربها به حتى آخر يوم في حياته، فعذرتها، لأنها لم تحاول منع ولدها من ذبحها. | |
|
amazigh النائب
عدد المساهمات : 210 نقاط : 585 السٌّمعَة : 3 تاريخ التسجيل : 04/07/2009 العمر : 30 الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1
| موضوع: ذات الوجه الشاحب الإثنين نوفمبر 30, 2009 7:30 pm | |
| - naruto كتب:
ذات الوجه الشاحب
تتوزع بعشوائية جذابة، في وجهها الأبيض الشاحب، حبوب صغيرة، تظهر بوضوح إذ اعترته صفرة المرض التي لا تقلل من بهاء الوجه الحسن.
شحوب وجهها الفاتن، أخذ ينسحب بهدوء تشتته ضربات قلبها الذي كاد ينفجر بين أضلاعها ـ أول مرة في ربيع حياتها ـ حين وضع كفه الخشنة على ظهرها النحيل، ولفح دفء أنفاسه طراوة خدها.
بتؤدة تحسست بلسانها المرتجف شفتيه اللتين مازال عالقاً بهما أثر تبغه الحاذق.
في تلك المدة على قصرها، زال شحوب وجهها الذي عرفت به منذ بلوغها، بل عندما همس بأذنها المزينة بقرط على شكل حلقات متداخلة قائلاً:
ـ على الأقل.. فكي أزرار قميصك.
احمر وجهها من شدة الخجل، فبدت أجمل بكثير، حتى أنها لم تعرف نفسها للوهلة الأولى عندما حدقت في المرآة التي تحاذي كتفها المغطى بشعرها الأسود الطويل الناعم، الذي أكسبته الحناء بريقاً داكن الحمرة، فظنت أن إحداهن تختبئ خلف المرآة لتختلس النظر إليها، كي تشي بها إلى جميع من تعرفهم.
لم ترفض طلبه رفضاً قاطعاً، إلا لأنها رأت وجهها قد صار أجمل بكثير، وإن كل الناس سيتحدثون عن وجهها الوردي بإعجاب وحسد كبيرين.
لكن رغم إلحاحه، واحتجاجه، لم تفك بأناملها المرتعشة من شدة الانفعال، سوى الأزرار العلوية من قميصها الضيق الذي يشف عن حمالة نهدين ذات لون مغاير للون القميص الأبيض النظيف؛ وهي تحاول دون جدوى، طرد الحياة من الباب المقفل، أو من النافذة التي أسدلت عليها ستارة لفحتها الشمس، فبهت لونها منذ سنوات.
* * *
لم تكن تدري وقتها أن الليالي التي ينغرس فيها الشك تطول دونما رحمة، فالأرق لا يتعب، أو يستكين إلى النعاس. حتى أن الدموع المالحة كادت تمحو مذاق قبلاته، وتجعلها باردة، كزجاج نافذتها التي ينسل عبرها نور القمر، فيؤنس وحشتها قليلاً، لبعض الوقت.
* * *
جلست بوجل قرب أمها، وهي تتأمل الشجرة الوحيدة في أرض الدار، تلك التي بدأت أوراقها الخضراء تفقد لونها، وتهوي نحو الأسفل لعدم قدرتها على الطيران كالعصافير التي تحط على أغصانها لبعض الوقت، ثم ترحل بعيداً نحو سماء لا حدود لها.
وهي تتأمل غياب خفوق الأجنحة الصغيرة في فضاء سماء بدأت زرقتها الصافية تكمد، ويخبو نورها. تنبهت إلى أن ثمة خطاً أبيض ـ يشبه الغيم ـ يحاول أن يشطر السماء إلى نصفين دون جدوى، لأن آخره ينفلش متلاشياً، فيبدو كجرح متجدد، ينزف هواء رطباً ينهمر متطايراً في كل اتجاه مع الريح العابثة التي تشتت هشيم الأوراق الهشة، حيث تتفتت حينما تصطدم الأشياء الصلبة من حولها.
لملمت شجاعتها المبعثرة بين حجرات المنزل منذ طفولتها، ثم سألت أمها بصوت حيي، بالكاد يسمع:
ـ هل تصبح الفتاة أماً.. إذا قبّل من تحبه.. نهديها؟!
لم يكن يخطر لأمها، حتى في كوابيسها السوداء المرعبة، أن تسألها ابنتها الصغيرة هذا السؤال الذي أنكرته تماماً، فقذفت من حجرها طبق القش الذي ورثته عن جدتها، فتناثر العدس ـ الذي كانت تفرزه عن الشوائب ـ على تراب وطأته الأقدام منذ أجيال، فارتص وعجز عن الإنبات.
تسابق الدجاج إلى التقاط حبوب العدس، غير معني بولولة الأم المفجوعة بابنة تمنت موتها للتو، أو آبه بسكين المطبخ الذي لمع نصله الحاد في يد ولدها الكبير، صاحب الشارب الكث المعقوف، فوق شفتين ترسلان البصاق، على وجه كاد الذعر يمحو ملامحه الشابة تماماً.
* * *
ذات الوجه الشاحب فرت مذعورة من البيت، دون أن يخطر في بالها أن تنتعل الحذاء الجديد الذي خبأته للمشاوير، أو تضع الكحل في عينيها النجلاوين.
ركضت حافية القدمين، ودون أن تشعر بالأشواك التي انغرست في لحمها، وتكسرت فيه. فخلفت خطواتها الضيفة. خيطاً أحمر، على شكل نقاط صغيرة فقدت حرارتها سريعاً على الدرب الذي سارت عليه بغبطة منذ أيام ليست بعيدة.
* * *
عندما قرعت باب من تحب، لم يفتح حبيبها. وعندما نظرت من نافذته، لمحت بصعوبة فتاة ذات وجه وردي، وهي تخلع فستاناً ليس فيه زر واحد.
* * *
عادت إلى المنزل منكسة الرأس، دون أن تعيد بأصابعها النحيلة خصلات شعرها المتطاير مع الريح الشاردة، فلقد كانت أصابعها المنتهية بأظافر مطلية بالأحمر الداكن تتحسس بحنو رقبتها الدافئة برغم برودة المساء الخريفي الذي أخفى تماماً قلادتها الذهبية التي تكاد تزهو بها دائماً بين رفيقاتها في حفلات الأعراس وهي ترقص فرحاً، وتحلم بأن تجلس يوماً ما، في الأيام القليلة القادمة، بثوبها الأبيض إلى جانب من تحب. بينما أخوها يرقص بكل طاقته، متحدياً من يقدر على منافسته، وهو يزهو بشاربه الكث. وأمها تزغرد بفخر، وهي توزع الحلوى على الأولاد المشاكسين. والصبايا اللواتي أخذن يرتدين فساتين لها أزرار براقة على الصدور الناهدة.
* * *
عندما أحست برودة نصل السكين، وبدمائها الدافئة تراق على وجهها الذي زاد شحوبه، وفقد دفئه.. تذكرت أنها كثيراً ما قطعت بالسكين ذاته الباذنجان والبطاطا لتقليها في الزيت الحار، وأيضاً كانت تقطع بالسكين ذاته البندورة إلى دوائر متناسقة، والبصل اليابس، كي تضعه بجانب الدجاج المشوي الذي كان يذبحه أخوها، فقد كان يأكل اللحم المطهو بشهية وبتلذذ.
شعرت بمفارقة غريبة، وأحست برغبة عميقة في أن تطلق ضحكة قوية من تلك الضحكات التي كانت أمها تقول عندما تسمعها (اخرسي فضحتنا) وقد تعقبها ببصاقها من فمها الأدرد على الأرض.
حاولت أن تحرك وجهها الشاحب حتى الرعب، على الرغم من آلام رقبتها، ومن اليد التي تمسك بقوة وثبات شعرها الناعم من الخلف، فرأت ببقايا بصر متلاش، أمها التي تنتف بقايا شعرها الأشيب، فابتسمت لها عفوياً، وهي تعرف جيداً أن أمها أعمتها المصيبة عن رؤية أي شيء آخر، لهذا لن ترى شفتي ابنتها اللتين أكسبهما الدم الطازج حمرة مالحة.
ولكنها لا تملك غير هذه المواساة الأخيرة، فهي تحب أمها التي لم تصرخ بوجه زوجها، حتى عندما كسرت يدها التي تتقي بها عكازه الذي ظل يضربها به حتى آخر يوم في حياته، فعذرتها، لأنها لم تحاول منع ولدها من ذبحها. | |
|
amazigh النائب
عدد المساهمات : 210 نقاط : 585 السٌّمعَة : 3 تاريخ التسجيل : 04/07/2009 العمر : 30 الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1
| موضوع: ذات الوجه الشاحب الإثنين نوفمبر 30, 2009 7:30 pm | |
| - naruto كتب:
ذات الوجه الشاحب
تتوزع بعشوائية جذابة، في وجهها الأبيض الشاحب، حبوب صغيرة، تظهر بوضوح إذ اعترته صفرة المرض التي لا تقلل من بهاء الوجه الحسن.
شحوب وجهها الفاتن، أخذ ينسحب بهدوء تشتته ضربات قلبها الذي كاد ينفجر بين أضلاعها ـ أول مرة في ربيع حياتها ـ حين وضع كفه الخشنة على ظهرها النحيل، ولفح دفء أنفاسه طراوة خدها.
بتؤدة تحسست بلسانها المرتجف شفتيه اللتين مازال عالقاً بهما أثر تبغه الحاذق.
في تلك المدة على قصرها، زال شحوب وجهها الذي عرفت به منذ بلوغها، بل عندما همس بأذنها المزينة بقرط على شكل حلقات متداخلة قائلاً:
ـ على الأقل.. فكي أزرار قميصك.
احمر وجهها من شدة الخجل، فبدت أجمل بكثير، حتى أنها لم تعرف نفسها للوهلة الأولى عندما حدقت في المرآة التي تحاذي كتفها المغطى بشعرها الأسود الطويل الناعم، الذي أكسبته الحناء بريقاً داكن الحمرة، فظنت أن إحداهن تختبئ خلف المرآة لتختلس النظر إليها، كي تشي بها إلى جميع من تعرفهم.
لم ترفض طلبه رفضاً قاطعاً، إلا لأنها رأت وجهها قد صار أجمل بكثير، وإن كل الناس سيتحدثون عن وجهها الوردي بإعجاب وحسد كبيرين.
لكن رغم إلحاحه، واحتجاجه، لم تفك بأناملها المرتعشة من شدة الانفعال، سوى الأزرار العلوية من قميصها الضيق الذي يشف عن حمالة نهدين ذات لون مغاير للون القميص الأبيض النظيف؛ وهي تحاول دون جدوى، طرد الحياة من الباب المقفل، أو من النافذة التي أسدلت عليها ستارة لفحتها الشمس، فبهت لونها منذ سنوات.
* * *
لم تكن تدري وقتها أن الليالي التي ينغرس فيها الشك تطول دونما رحمة، فالأرق لا يتعب، أو يستكين إلى النعاس. حتى أن الدموع المالحة كادت تمحو مذاق قبلاته، وتجعلها باردة، كزجاج نافذتها التي ينسل عبرها نور القمر، فيؤنس وحشتها قليلاً، لبعض الوقت.
* * *
جلست بوجل قرب أمها، وهي تتأمل الشجرة الوحيدة في أرض الدار، تلك التي بدأت أوراقها الخضراء تفقد لونها، وتهوي نحو الأسفل لعدم قدرتها على الطيران كالعصافير التي تحط على أغصانها لبعض الوقت، ثم ترحل بعيداً نحو سماء لا حدود لها.
وهي تتأمل غياب خفوق الأجنحة الصغيرة في فضاء سماء بدأت زرقتها الصافية تكمد، ويخبو نورها. تنبهت إلى أن ثمة خطاً أبيض ـ يشبه الغيم ـ يحاول أن يشطر السماء إلى نصفين دون جدوى، لأن آخره ينفلش متلاشياً، فيبدو كجرح متجدد، ينزف هواء رطباً ينهمر متطايراً في كل اتجاه مع الريح العابثة التي تشتت هشيم الأوراق الهشة، حيث تتفتت حينما تصطدم الأشياء الصلبة من حولها.
لملمت شجاعتها المبعثرة بين حجرات المنزل منذ طفولتها، ثم سألت أمها بصوت حيي، بالكاد يسمع:
ـ هل تصبح الفتاة أماً.. إذا قبّل من تحبه.. نهديها؟!
لم يكن يخطر لأمها، حتى في كوابيسها السوداء المرعبة، أن تسألها ابنتها الصغيرة هذا السؤال الذي أنكرته تماماً، فقذفت من حجرها طبق القش الذي ورثته عن جدتها، فتناثر العدس ـ الذي كانت تفرزه عن الشوائب ـ على تراب وطأته الأقدام منذ أجيال، فارتص وعجز عن الإنبات.
تسابق الدجاج إلى التقاط حبوب العدس، غير معني بولولة الأم المفجوعة بابنة تمنت موتها للتو، أو آبه بسكين المطبخ الذي لمع نصله الحاد في يد ولدها الكبير، صاحب الشارب الكث المعقوف، فوق شفتين ترسلان البصاق، على وجه كاد الذعر يمحو ملامحه الشابة تماماً.
* * *
ذات الوجه الشاحب فرت مذعورة من البيت، دون أن يخطر في بالها أن تنتعل الحذاء الجديد الذي خبأته للمشاوير، أو تضع الكحل في عينيها النجلاوين.
ركضت حافية القدمين، ودون أن تشعر بالأشواك التي انغرست في لحمها، وتكسرت فيه. فخلفت خطواتها الضيفة. خيطاً أحمر، على شكل نقاط صغيرة فقدت حرارتها سريعاً على الدرب الذي سارت عليه بغبطة منذ أيام ليست بعيدة.
* * *
عندما قرعت باب من تحب، لم يفتح حبيبها. وعندما نظرت من نافذته، لمحت بصعوبة فتاة ذات وجه وردي، وهي تخلع فستاناً ليس فيه زر واحد.
* * *
عادت إلى المنزل منكسة الرأس، دون أن تعيد بأصابعها النحيلة خصلات شعرها المتطاير مع الريح الشاردة، فلقد كانت أصابعها المنتهية بأظافر مطلية بالأحمر الداكن تتحسس بحنو رقبتها الدافئة برغم برودة المساء الخريفي الذي أخفى تماماً قلادتها الذهبية التي تكاد تزهو بها دائماً بين رفيقاتها في حفلات الأعراس وهي ترقص فرحاً، وتحلم بأن تجلس يوماً ما، في الأيام القليلة القادمة، بثوبها الأبيض إلى جانب من تحب. بينما أخوها يرقص بكل طاقته، متحدياً من يقدر على منافسته، وهو يزهو بشاربه الكث. وأمها تزغرد بفخر، وهي توزع الحلوى على الأولاد المشاكسين. والصبايا اللواتي أخذن يرتدين فساتين لها أزرار براقة على الصدور الناهدة.
* * *
عندما أحست برودة نصل السكين، وبدمائها الدافئة تراق على وجهها الذي زاد شحوبه، وفقد دفئه.. تذكرت أنها كثيراً ما قطعت بالسكين ذاته الباذنجان والبطاطا لتقليها في الزيت الحار، وأيضاً كانت تقطع بالسكين ذاته البندورة إلى دوائر متناسقة، والبصل اليابس، كي تضعه بجانب الدجاج المشوي الذي كان يذبحه أخوها، فقد كان يأكل اللحم المطهو بشهية وبتلذذ.
شعرت بمفارقة غريبة، وأحست برغبة عميقة في أن تطلق ضحكة قوية من تلك الضحكات التي كانت أمها تقول عندما تسمعها (اخرسي فضحتنا) وقد تعقبها ببصاقها من فمها الأدرد على الأرض.
حاولت أن تحرك وجهها الشاحب حتى الرعب، على الرغم من آلام رقبتها، ومن اليد التي تمسك بقوة وثبات شعرها الناعم من الخلف، فرأت ببقايا بصر متلاش، أمها التي تنتف بقايا شعرها الأشيب، فابتسمت لها عفوياً، وهي تعرف جيداً أن أمها أعمتها المصيبة عن رؤية أي شيء آخر، لهذا لن ترى شفتي ابنتها اللتين أكسبهما الدم الطازج حمرة مالحة.
ولكنها لا تملك غير هذه المواساة الأخيرة، فهي تحب أمها التي لم تصرخ بوجه زوجها، حتى عندما كسرت يدها التي تتقي بها عكازه الذي ظل يضربها به حتى آخر يوم في حياته، فعذرتها، لأنها لم تحاول منع ولدها من ذبحها. | |
|