منتديات الابداع
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.




 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصوردخولالتسجيلGames

 

 العصفور والريح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 01, 2009 8:48 pm

-1 -‏

حين شممت الرائحة وسمعت الزعيق، كانت يداي معقودتين خلف ظهري، وقدماي الشاردتان حرتين على مهل، ولا تبصران ما أمامهما بوضوح وعيناي الزرقاوين غائرتين، تجولان في الآفاق أو تكنسان الطريق، والدموع تلهث فيهما، بينما تلتهب الشجون في حلقي الجاف.‏

كان الجو صافياً، هادئاً، وفي السماء التي كانت تطفو فوق الجبال والأشجار العالية، غيوم قطنية مبعثرة تسبح بكسل، وشمس الظهيرة في ذروتها. تلهب سياطها الذهبية رأسي الحاسر وجسدي المتعب.‏

خنقني الدخان الكريه وأيقظني الصراخ الداوي، من شرودي رفعت بصري لأتبين مصدرهما فبوغتّ بصوت محرك سيارة يهدر في أذنيّ!‏

ذعرت وساورني الاضطراب وتلفتّ، فإذا بباص المارسيدس على بعد خطوة مني، حتى ليكاد يلامسني! رأيت فروة سلطان الممتدة من مقصورة القيادة. وأبصرت يده البلهاء تلوح محيية، ثم طالعني وجهه المستغرب:‏

-ما بك يا كاكاحمه؟‏

فاجأني، فهززت يدي نافياً وجودي شيء. وحركت رأسي معتذراً عن عدم انتباهي.‏

-أنت تبكي!‏

لم أهتم لما قاله. انحرفت عن مساري. ابتعدت عن وسط الطريق، فاسحاً المجال لسيارة "عثمان المخرف" كي تتابع سيرها وهممت أحث الخطى في الممر الجبلي الضيق. رافضاً أي نوع من المساعدة.‏

لم أبال بنداءات السائق، ومساعده، ولم أصغ لصيحات الركاب وتوسلاتهم، أو أستجيب لدعواتهم لي بالصعود. لم أعر أذناً لكل همساتهم وتعليقاتهم وكدت ابتعد عنهم لولا "سلسلة الأفكار "تذكرتها فراحت أنظاري تفتش بينهم تجتاح الكراسي بنهم، تتطلع بلهفة، بحثاً عن "السلماني" دون غيره وإذا مسني اليأس سألت سلطان لأبعد شكوكه: -ألم يأتي عيسى؟‏

-لا... ماذا تريد منه؟ هل وجدت له وظيفة؟‏

لم أكن راغباً في محادثة أحد، ومع ذلك تحمست لسؤاله:‏

-ألم تلد زهرة؟‏

-هذا أسبوعها الأخير، إن شاء الله. محمد وأمه يلازمانها كالظل. رد بصوت خشن يخالطه الأمل. وصاح مع أكثر من شخص:‏

-اركب تعال اصعد... لا تعاند. الطريق طويل.. ماذا بك؟ ماذا يدور في رأسك؟‏

لم أرد، تابعت السير. لم أكن مستعداً لكشف أوراقي، وفضح ما آل وسيؤول إليه مصيري ومسقبلي.‏

صحيح، إنها ريح عاتية هذه التي تمر عليّ والتي حولت الأحلام في نبضي إلى جناحين، إلا أنها بالتأكيد ريح موسمية. ستتلاشى حتماً بإرادتي، وبفضل اللّه القدير... فكل شيء جائز عنده... كل شيء.. لذا سأقف بوجهها كجدار صلب. وسأتجلد أمام الآخرين، لأظهر بمظهر القوي تماماً، كجبل لا تهزه العواصف. فلقد تحسنت صحتي بعض الشيء، وبدأ شعري الذهبي ينمو... والفضل "لأزرق برلين".‏

وصحيح أيضاً، أنني خبرت الحياة، وآن لي أن أعرف الشجى وأترنم بألحان الأسى، لكني لن أفعل. لن أستسلم، وسأقاوم. فالصمود واجب مفروض. وكل جهد يهوي مقابل ما سأعمله.‏

قال الطبيب: اصبر، وابتعد عن الإجهاد والتوتر. كيف أصبر وقد تحدد مصيري؟! يا إلهي، أضاع الشباب حقاً؟ أبداً العد التنازلي؟ ثم كيف لا أجهد نفسي وأعمالي القادمة لن ينجزها إلاّ الجهد والمثابرة؟ يا إلهي، بالأمس كنت فتياً فمتى لحقت بي دودة الهرم بهذه الشراهة، فنزعت مني كل تفاؤلاتي وأبقت لي أفكاراً غائمة تتصارع في مخيلتي؟ لا أعرف كيف أميزها، أو بأيها أبدأ...!‏

عليّ أن أسرع الخطى، لأصل سالماً قبل أن تخور قواي وأقع. وقبل أن يعاودني الصداع، فيلازمني طويلاً ويؤخرني.. أصل لأبدأ من جديد.. لن أدع" ما حصل" يفسد طموحي وآمالي، وسأبذل كل ما لديّ من طاقة لتنفيذ ما عزمت عليه. سأعمل، فبالعمل وحده أحقق إنسانيتي وأشعر بالراحة.. العمل سيخفف عذاباتي.. لولا أمي ما عدت. إنها مصدر كل معاناتي. ما توقعت أبداً أن أعود هكذا خالي الوفاض، دون نجاح يذكر. "فالعميد" هرب إلى تركيا و"إلهام" التي كنت آمل أن يؤويني صدرها بضعة أيام، تزوجت! ما أشد الخيبة وما أقسى المرارة! خاب أملي بها وتفاقمت مرارتي، حال معرفتي بالنبأ... قصدتها، واضعاً في خيالي أن التجئ عندها إلى حين نيل المرام وتحقيق الهدف، باعتبارها الملجأ الوحيد، الذي يمكن أن أحتمي به وأستدفئ بظله، وأرتوي بحنانه على مغالبة ما ألمّ بي، بل وأصارع الدهر!‏

ظلت السيارة ولدقائق، تسير بمحاذاتي ببطء متناه، كسلحفاة عجوز، مما أزعجني وزاد من انزعاجي إلحاح سلطان والركاب! وعلى الرغم من أن عقلي كان بعيداً عنهم، سارحاً في ملكوت السموات، ولم انتبه بالضبط لما كانوا يقولونهن إلاّ أني خمنتهم يحثونني على مرافقتهم، ربما عطفاً وشفقة. ظناً منهم بأني تعبت والسير أرهقني. وكأنهم لا يعرفون منْ أنا! عجباً، أتراهم نسوا بطولاتي الرياضية؟ أشرت إليهم شاكراً، وتصرفاتهم العجيبة تثير دهشتي! تساءلت مع نفسي بألم وأنا أشهد إصرارهم: ما الذي يريدونه؟ ما الذي يتصورونه؟ أيعتقدونني جننت؟ لا.. وألف لا.. فأنا بكامل وعيي، وعقلي يزن عقولهم مجتمعة.. أعرف جيداً ما أفعله وما سأفعله... أمامي ثلاثة كيلومترات حتى أصل قريتي بعد أن قطعت خمسة بالتمام. وما دام الإنهاك لم يهد مفاصلي بعد، فساواصل السير بعزيمة، ودونما كلل... وعلى بركة اللّه.‏

ليعتقدوا بما يشاؤون، فما عادت تهمني كل أعتقاداتهم. ماعاد يهمني أسار الركب أم ركب الأمير... عدت إليهم إنساناً آخر ولينتظروا "فكاكاحمة عاد... عاد" صرخت في أعماقي وتابعت سيري. وحين دب اليأس في أوصالهم، ونخزهم عجزهم عن إقناعي بالصعود معهم، تركوني. ومضت سيارتهم في طريقها، تتهاوى في سيرها كحمار أرهقته الأحمال... بينما أخذني حملي بعيداً وحلّق بي عالياً.‏

كان حرياً "بالخبر الصاعق" أن يدفع بي إلى القبر، في الحال. لكن "أوراق الجمولي" أعادت لي الأمل، ووهبتني الحياة من جديد ها هي على قلبي ملفوفة بكيس نايلون خشية من العرق المتصبب من جسدي... "أخ لو حصلت عليها من قبل... أخ..."!‏

أطلقت زفرة حرى. وعضضت أصابعي حسرة. فلو وقعت هذه الأوراق في يدي قبل الآن، وفي ظروف أحسن، لكانت فائدتها أكثر بالتاكيد. ومع ذلك سأستثمرها سأبدأ "بالسلماني" لن أدعه يهنأ بثروته. فبعد أن "باع حصيلة الموسم بربح وفير" وجب أن أستعيد حقي.. سأخرق موتى موتاه.. و"سعدو الخائن" لن يفلت مني. أخذ حصته فليعطني حصتي... ما كنت أعرف أن الأوراق تتكلم! تنطق! إنما "المال يتكلم" فتلك حقيقة لاغبار عليها، كحقيقة أن الفقر وحش شرس، لا يقاوم وأنا سأجعل الدنانير بين يديّ.. وتغني... فلينتظرا... لينتظر الجميع.. فكاكاحمه عاد... عاد.‏

طوال الأيام القصيرة الماضية انبثقت الأفكار في داخلي! تدفقت بصورة غريبة، كشلال بارد، فأطفأت نيران القلب والروح المتأججة. كنت أعد مشاريعي، أرتبها، أزيد عليها وأنقص منها، ثم أقلع عنها نهائياً! كل ما أفكر به في الليل يمحوه النهار ببساطة! وكل ما أخطط له في الصباح، كنت أتخلى عنه في المساء... ولم أستقر على رأي أبداً، بسبب اضطرابي وتشوش ذهني... ولأن هدفي كان التسلية فقط، وقضاء الوقت. فحسب ما قاله "مجيد": على الإنسان أن يملأ روحه بشيء ما، وإذا لم يفعل وباتت الروح خاوية، فالقلب سيجتر دمه بنهم شديد... واليوم، تغير كل شيء وما عاد هناك تسلية، ولا حاجة لقضاء الوقت... بت في موقع المسؤولية، وباتت أمامي مشاريع جديدة، محددة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ولا يمكن الاقلاع عنها ومحوها من الذاكرة... مسؤوليات لا يحق لي التخلي عنها.. أبداً.. أبداً.‏

كل شيء كان واضحاً لنا، لكن الدليل.. تقديم البرهان أعجزنا... السلماني الكلب، لن يفلت هذه المرة.. لا.. لن يفلت... نذالته وخسته هما وراء موت أبي... طمعه في أرضنا وتهديده لنا ورفضنا عرضه لبيعها له وتشبثنا بها، دفعته إلى حرق محاصيلنا. ولكثرة الديون المترتبة عليه اضطر أبي للعمل عند المخرف، سائقاً لسيارة الأجرة الصغيرة، لكن الأمر لم يدم سوى أشهر. انقلبت في حادث أليم وطارت روحه إلى السماء وعندئذ برز لنا السلماني بأوراقه! إدعى أن أبي باعه الأرض قبل مدة واستلم المبلغ كاملاً عرض لنا ورقة البيع والشراء ممهورة "ببصمة أبي" ومذيلة بشهادة حمودة الأعور وسعدو وزوج خالتي المحامي! صدقنا مرغمين... غير أن الحيرة لازمتنا... الحيرة في النقود! فمتى أخذها أبي وأين صرفها؟! أقسمت أمي بأنها لم تسمع عن البيع شيئاً ولم تر فلساً واحداً! صدقنا إدعاء السلماني، لجهلنا وسذاجتنا... لكن أوراق الجمولي كشفت لي الحقيقة...‏

تذكرت مصاب أبي والفاجعة التي حلت بنا. فراودني حلم الانتقام القديم من السلماني الذي أكل حقنا وطردنا من الأرض. ولا شيء تكره نفسي في الدنيا كلها مثله، لنذالته، ومثل هذا الطريق الطويل، المتعرج، بالتواءاته القاتلة. التي ضيعت العشرات وعلى رأسهم المرحوم أبي...‏

كرهت الطريق ولطالما تمنيته رجلاً لأقتله. ولطالما فكرت في وسيلة أتفادى بها المرور عبره، ولم أجد. ووجدت الآن الفرصة متاحة للتفكير...‏

جالت في ذهني أفكار جديدة، فأتعبتني، وبلبلت حالي... وفجأة برزت واحدة منها، كشعاع منير، انطلق محلقاً في الأعالي. وحوله لاحت نجوم خماسية مضيئة! تسمرّت في مكاني. تجاهلت كل مشاريعي وسلسلة الأفكار. واندفعت صوب مشروع جديد.. أهمّ وأكثر فائدة. طرأ على غير توقع! ولأني أكثر الجميع معرفة بقريتي، أعرف كل شيء عن أحوالها، ناسها وبيوتها، أزقتها وشوارعها أعشابها وأشجارها، حصياتها وصخورها، أوديتها ومنحدراتها ومرتفعاتها، عاينت المكان تفحصت الأرجاء ثم صعدت إلى أقرب تل.‏

من قمته ألقيت نظرة على الجبل والتلال المجاورة وفكرت: لماذا لا نشرع في إكمال الطريق؟ منذ عشر سنوات ونحن ننتظر الحكومة! فإلى متى سنبقى في الانتظار؟ يكفيها إنها قررت إقامته وفتحت لنا النفق قبل أن توقف أعمالها بسبب القتال... لو أزلنا هذه التلال وبترابها ردمنا الهوّة، لغدا الطريق سهلاً وقصيراً... بالتأكيد...‏

طابت لي الفكرة واستسهلتها ولأني عدت لأعمل، نسيت تعبي. وبقيت أخطط وأرسم أتخيل فأحضر، أحكم فأردم... حتى ضج دماغي وتشبع خيالي... فتابعت المسيرة وكلي عزم وإصرار على ضرورة التخطيط بعقل، كي لا أتسرع ولا أندم، فالسرعة والندم أخ وأخت ثم أن واجب الإنسان أن يفكر جيداً قبل الإقدام على عمل ما... وعليّ أيضاً أن أستشير المختار والملاّ، فهناك دائماً أصوات متعقلة وسط الفوضى والضلال...‏

بعد ثلاث ساعات وصلت قريتي. التي تتوضع بمهابة على حافة سهل أربيل الجميل، الذي تختزن أعماقه أسرار وتفاصيل غريبة لا تصدق، وتشرف على أرضه الواسعة، المشهورة بطيب هوائها وبمياهها الرقراقة العذبة، التي تنبع من الأعالي وتنحدر مع الصخور لتشكل جداول ما أروعها، وتطل على الطريق العام...‏

لاحت مئذنة المسجد شامخة. وبانت أغصان الأشجار المتعانقة. وظهرت البيوت الحجرية العتيقة، متناثرة على امتداد المساحة الخضراء المترامية الأطراف.‏

لفحتني وأنا أدخل أول منعطف، عذوبة الهواء، ورطب وجهي بنسيم ما بعد الظهيرة العليل، فدمعت عيناي وانتعش قلبي بنسيمات الخريف، الناعمة، الرقيقة، الباردة.‏

في بداية الشارع المؤدي إلى ساحة القرية والذي كان مظللاً بأشجار اللوز قبل حرقها أيام الحرب وجدت الصبي راضي بن سعدو يسرح بالبقرة عزيزة.‏

دهش لرؤيتي سائراً على قدميّ سلم عليّ فمازحته وسألته:‏

-قل لي يا راضي، هل السلماني في القرية؟‏

-لا.. منذ شهر وهو في أربيل. وأبي ذهب إلى عمك ليقص شعره... ألمني جوابه، وفتّ في عضدي. لأن كل مشاريعي ستتأجل...‏

تركته ومضيت، فألتقيت بعد قليل بموسى عائداً من جولته اليومية، يقود قطيع الخراف والماعز -أهلاً كاكاحمه... أهلاً... الحمد للّه على السلامة.‏

بادرني مرحباً بوجهه الطويل المبتسم، وحاجبيه المتصلبين.‏

كان يمسك بعصاه المعقوفة، ويشد وسطه بزنار جلدي ويستر رأسه بقطعة قماش. رددت التحية وسألته:‏

-ألم يأت عيسى؟‏

-عيسى في بغداد... ماذا تريد منه؟ أصدر أمر تعيينه؟ تركته ومضيت قدماً، مخترقاً الساحة حيث كان الأطفال يلعبون كرة قدم. اشتعلت الذاكرة فجأة فوقفت . تذكرت ملاعب طفولتي... الأصدقاء... وبرز شبح أحمد ابن المختار برفقة عمتي بتول وأخي رحيم، فبكيت.. وأصبح طيف أحمد أكثر حضوراً وهو يأخذ بيدي ويقودني....!‏

سرت بعد دقائق، فوجدت بانتظاري جمعاً حاشداً يقف عند مشارف البيوت وعلى عتباتها، وبقرب مقهى نصار، بحيث ازدحم بهم الممر الترابي الضيق.‏

استقبلني بعضهم بترحاب بالغ. وأمطرني آخرون بالقبل، وبأسئلتهم اللحوحة المستغربة:‏

-مضت خمسة أيام على غيابك! أين كنت؟ ماذا قال لك الطبيب؟ لم أنبس بحرف، مما زاد في استغرابهم. اكتفيت بالتطلع إلى وجوههم الصفراء المرتعبة، بحثاً عن وجه أمي. وحين لم أره بينهم تقدمت متثاقلاً، فأفسحوا لي لأمضي بعيداً.‏

تركتهم في حيرة. ومررت على دكان عمي حسن لأحلق رأسي. لكني لم أدخل لرؤيتي سعدو جالساً بين يديه. سلّمت وابتعدت قاصداً دارنا. أحسست من خلال نظراته ونظرات زبونة القلقة أن هناك أمراً غير طبيعي، لم يخامرني شك في سلامة عقلي، بل خفت على أمي وتلبّسني الذعر...‏

على امتداد الدرب احتشد الصبيان يتفرجون عليّ، بينما يتقافز الدجاج قربهم بحثاً عن طعام! مما زاد في ذعري، الذي سرعان ما تلاشى.‏

فعلى العتبة العريضة وجدت أمي تفترش سجادة صلاتها الصوفية تتربع، تسد الباب بجسدها القصير النحيف. المغزل الرفيع يدور بيدها وكيس الصوف ملقى جنبها كخروف صغير!‏

رأتني فنهضت، أخذتني بالأحضان وشرعت تبكي بدا وجهها الجميل يكتظ بالحزن والأسرار. تشع فيه عينان ثابتتا النظرات، تقرأ فيهما تأريخياً طويلاً من المعاناة والشقاء.‏

بدل أن أمسح دموعها المتقاطرة، وقفت أمامها كالصنم، بانتظار أن تتزحزح وتفسح لي المجال لأدخل وأستريح، وأستبدل ملابسي بعد أن بللني العرق إلا أنها لم تفعل! حتى أنها لم تدعني أتفوه بكلمة. كنت غاضباً ومتوتراً وتمنيت لوانها تتركني وشأني، ولا تبدي كثير أهمية لعودتي، وتستمر في غزلها دون أن توليني أي اهتمام... ظهر سرورها برؤيتي واضحاً، فآلمتني... وذاب ما بي من غضب وتوتر، وتلاشى. واستلهمت الشجاعة من عينيها اللتين تفحصتا في بروية وحنان، واستفسرنا بهلع ومن خلال الدموع عما حصل لي في أربيل، وَلمَ عدت هكذا بسرعة ... فقلت: أنا بخير.يا أمي... بخير...‏

داخلها الاطمئنان فاستبشرت أساريرها. أنتشيت بدوري حالما رأيتها تبسط كفيها رافعة بصرها إلى السماء تشكر اللّه.‏

-لم أتأخر.. لم أرغب في البقاء أكثر من هذا.‏

أظهرت استغرابها. فأردفت.‏

-فكرت بك يا أمي... بوحدتك..‏

أعياني التعب، وفترت قواي خفت أن أتهاوى مجبوراً متهالكاً فسمعتها تستفسر بلهفة:‏

-هل وجدت عملاً؟ هل حصلت على مال؟ أجلبت معك شيئاً من خالتك؟‏

-لا يوجد في جيبي فلس واحد.‏

غاظها ردي. شعرت بخيبة حقيقية فعادت تستفسر:‏

-عجيت! ولم عدت إذن؟‏

-جلبت معي هذه الأوراق.. عدت من أجلها..‏

تسمر فكها عجباً للحظات. غير أن الشفتين اليابستين ارتعشتا قليلاً وتساءلتا بمرح:‏

-أوراق! أتطعمنا أوراقك هذه؟‏

-نعم... وسأتزوج بها...‏

بهتت، تطلعت إليّ بعينين ذاهلتين. وتحركت شفتاها من جديد وانفرج بالتالي ثغرها، لتنطلق منها ضحكة مدوية..‏

قهقهت حتى ترقرق دمعها! ثم أعقبت بتوضيح ساخر:‏

-تتزوج؟ مليحة الجرباء رفضت تزويجك ابنتها!‏

سكتّ، فاستمرت بسخريتها المريرة. تركتني وتمددت على السجادة دلالة الغيظ، وباغتتني بسؤالها القاتل:‏

-فمن تقبل بإفلاسك وبسواد...؟‏

-هدهد.‏

أجبتها، فجنت! لم تصدق. رأيتها تقفز قاعدة وتهبد بيدها فوق صدرها. وفي غمره غيظها تساءلت بقرف وضيق:‏

-هداية العمياء؟!‏

ألمني ما سمعت ولم أشأ الدخول معها في نقاش عميق، وعقيم فهي أمي وأنا مرهق والكلام لا يسد جوعاً، قلت بحزم:‏

-هي بذاتها... وسأتزوجها بعد غد...‏

أذهلتها... حدقت فيّ بعجب، راحت لثوان تنظر إليّ نظرات ملؤها الوجل والريبة. وحين لحظت جديتي عادت لتتأكد:‏

-هداية!! هداية العمياء؟! بماذا ستنفعك. وتنفعنا؟ كدت أصرخ بوجهها "إن ابنك مكره لا بطل" لكني عدلت:‏

-استغفري ربك يا أمي... أنت تكفرين! ألم تعلميني بوجوب شكر الخالق وتحذريني بألاّ نعيب على المنقوش. وحاشا للّه أن نعيب على خلقته، جلت حكمته! ما ذنب المسكينة هدهد، إذا فقدت بصرها في ضربة حاقد؟ وكلنا معرضون لأن نصبح مثلها... تصوري موقفك، لو جاءت الضربة على رأسك؟‏

صفنت تستوعب المعنى، ولأنها تعرف مدى إصراري، وتشبثي بكلمتي، تراجعت عن سخريتها وغيظها، وأعلنت بصدق:‏

-لا يا بني... لا... إنني أمزح... أنت سيد العقل، والمال ليس كل شيء في الحياة.. سأكلم الحاج صالح بنفسي... فشذى لن تجد أفضل منك... وهي تنتظر موافقتك.. سأكلمها بعيداً عن عمتك... رقص قلبي لذكرياتي مع شذى، كأنه معلق على جناحي طائر.‏

-لا تتعبي نفسك... فانا لا أريد شذى.. لا تكلميني عنها ثانية... ثم أنت تعرفين عمتي جيداً، إنها طامعة في بيتنا... وهي لا تحبنا لن ترتاح لي، ولن تتركني أرتاح... هذا إذا وافقت..‏

-صدقت... مليحة، لئيمة حقودة، وغيور... وعادة البدن لا يغيرها إلا الكفن...‏

لم تبدأ أمي كامل استسلامها، وإن نطقت بكلمة حق بسبب كراهيتها لعمتي.‏

حين تركت المستشفى أيقنت أن هدهد، هي الفتاة الوحيدة القادرة على انتزاع الكمد القاتل من قلبي، وإزالة الغمامة السوداء من نفسي، أو تخفيف وهجها على الأقل.‏

-ماذا جرى يا بني؟! ماذا بك؟ أين عقلك؟‏

-تركته عند أختك الكاذبة. وأخذت هذه الأوراق بدله.‏

-خالتك مريم! ماذا حدث بينكما؟ ألم تكن عندها؟‏

-لم تبقني في بيتها ساعة واحدة! سحبتني بأمر الجمولي الحرامي إلى المستشفى... وتركتني هناك وحيداً ككلب أجرب!!‏

-لماذا؟! ما الذي حصل؟‏

-لماذا! كأنك لا تعرفين أخلاق أختك وزجها؟‏

ما أردت الذهاب معها لولا عنادك. أنت سبب كل ما حصل لي...‏

صمتت يلفها الندم، كمن يسترجع الذكريات ويتحقق من صحة المعلومات التي تلقاها.‏

-وكيف جئت إلى هنا؟‏

-جئت مشياً.. سرت على قدمي، الطريق كله...‏

-لا بدّ أنك هربت... ماذا قال لك الطبيب؟‏

أصمت منكسراً... فتكمل بحنان ولهفة:‏

-اخبرني..‏

-قال لي: وسواس... تزوج يا كاكاحمه فتتخلص من وساوسك...‏

-تتزوج! من أين؟ أتظن الزواج لعب أطفال؟ وها أنت تعود حافياً "لا من قدام ولا من ورا غير الهوا" ضحكت... وصفقت باستهزاء... فآمتعضت وأوضحت لها:‏

-لا ياأمي... لا تقولي هذا... لا تنسي حكمة أبي "من عامود إلى عامود يفرجها الرب المعبود".‏

-آمنت باللّه.. لكن..‏

-جئت يا أمي لآخذ حقي... وسترين... كيف سآخذه.‏

أخبرتها بثاني المشاريع ففغرت فمها مستغربة:‏

-إنه شرع ربنا، ولا يمكنني التفريط به، سأخذه فأطمئني.‏

-تأخذه ممن كان يعرف اللّه ويخشاه... لا من السلماني!‏

-سأفقأ عينيه، ثم أتزوج.‏

وكأنها لم تستسغ حديثي سارعت تسأل:‏

-وماذا نقول لعبد اللّه المختار؟ كيف ستواجهه؟‏

إنه يحبك يا بني...‏

-وما دخل المختار يا أمي؟! أنا لن أتزوج خطيبته!‏

-كن عاقلاً وأجل الموضوع. لم تنته أربعينية الحاجة..‏

ولا أظنه سيوافق على زواجك..‏

-يا أمي، مختارنا أعقل مما تتصورينه. أمه عجوز، ماتت بعد أوانها بخمسين عاماً.‏

-عجوز!! أنت لا تحبها. وربما ماتت بسببك أنت... لقد آذيتها كثيراً..‏

ضحكت.. أدركت قصد أمي، غرضها الواضح، سعيها لعرقلة زواجي. فهي لم تكن في يوم ما على وفاق مع العجوز المتوفاة.‏

تذكرت شعيرات شارب المرحومة. ولحيتها الناتئة ببشاعة والتي كانت تغريني على أذيتها بكل السبل. وتدفعني إلى اقتلاعها بيدي نتفاً كنت أتسلل خفية إلى مطرحها، أثناء غفوتها. وانتزع الشعيرات انتزاعاً، غير مبال بصراخها وبالألم الذي أسببه لها.. وآخرها قبل ثلاثة أشهر، حين جئت في آخر إجازة عسكرية.‏

قبل تسريحي من الجيش... تذكرتها وتذكرت جلادة المختار... ومرقت أمامي صورة أحمد، الذي ذبحه. ليحافظ على شرفه، وليبقي رأسه مرفوعاً...!‏

لم أجد الرغبة في الخوض بما لا أحب. ولم أكن مستعداً لكشف أوراقي وفضح أسراري لأحد، حتى لأمي. انتهى كل شيء... انتهى حسب توقعاتي... انتهت أيام النعيم والشقاء، ولم يبق إلا مسك الختام، والحمد للّه الذي لا يحمد على مكروه سواه.‏

ثم أن ما جرى لي يخصني وحدي، وحالتي لا تسمح لي بمزيد الكلام والتوضيح. فأنا متعب وجائع. مشيت مسافة طويلة ووجب أن أخلد إلى الراحة. أستريح وأهدأ، فمشواري القادم أطول... مشوار العمل والجهد.. عدت لأعمل لا لأتحدث وأضيع وقتي... أمي تريد قتل ساعاتها الطوال في اللغو والثرثرة. كأرامل قريتنا الشابات، الجميلات. وأنا لا وقت عندي.. لا وقت.‏

أزحتها جانباً ودخلت. اتجهت إلى غرفتي، فواجهتني لوحة الميداليات. القديفة الحمراء المزركشة المؤطرة. وتحتها انتصب رف الكؤوس... كدليل ساطع على بطولاتي. وحولها توزعت عشرات الصور التذكارية، صور المسابقات والمهرجانات الرياضية وفي الوسط علقت صورتي الكبيرة في إطار من خشب. حفرت في جانبيه أغصان وورود ملونة.. بقايا ذكريات بادت وأيام قضت. تحسرت على الشباب... وندمت لأني لم أحسن التصرف.‏

دسست الملف تحت الفراش، غطيته جيداً. وأبدلت ملابسي ثم استلقيت على سريري، أنفس عن كربي وأتنفس الصعداء. جالت عيناي في أرجاء الغرفة الصغيرة. لم يكن هناك ما هو غريب خزانة ملابسي، سريري، مشجب، منضدة وضع عليها راديو أبي الكبير العاطل، وساعة دائرية لا تعمل. كان لها جرس تنبيه أخرسته ذات يوم بضربة كف. وعلى الأرض بساط صوفي حاكته أمي قبل زفافها، وتقويم قديم ملون.‏

لحقت بي أمي مع مغزلها. جلست عند رأسي تسأل وتستفسر. وتوقعت أن تستمر أسئلتها. وخفت أن تستدرجني وتكشف ما بي. كما خفت أن يزل لساني دون إرادة مني، فيبوح لها بما يؤذيها ويجرح فؤادها. وربما يزيد في آلامي.. وأنا الذي أقسمت على الصمت ما دام أحد لم يعرف شيئاً بعد...‏

استويت قاعداً وخاطبتها بلهجة صريحة وقاطعة:‏

-اسمعي يا أمي، اذهبي الآن إلى الخانم. أبلغيها سلامي وخذي منها ثوبين صالحين، لفيهما بكيس. واذهبي إلى عم مصطفى. اخطبي لي هدهد. وأخبريه عن لساني، بأني قررت أن أخصي له ثور السلماني وأحفر البئر بنفسي. وسأزوره غداً لأزف له بشرى خاصة.‏

لم تفهم ما عنيت. ضربت الأرض بقدمها وصاحت موبخة: -أأجننت؟ أتتصورني طفلة أتصرف بمشورتك. أتظن الذهاب إلى الخانم أمراً سهلاً. ثم من قال لك إن مصطفى سيقبل بك؟‏

-سيقبل يا أمي، فإذا أطعمت الفم تستحي العين. قولي له إن كاكاحمه يسلم عليك بسند الجمولي، وسيكسر رأسك!! إذا امتنعت...‏

-سند الجولي!! أي سند؟ ماذا تعني؟‏

-لا يعنيك الأمر يا أمي، أرجوك اذهبي... هيّا..‏

انتابها الشك في سلامتي. فهذا أمر لم يكن في الحسبان اطلاقاً. مسكت رأسها بحيرة وقالت:‏

-يا بني، العرس لا يتم هكذا... فلا تستهن بتقاليدنا. فاردمي، شعرت بنوع غريب من التمرد النفسي، فضربت وبشدة حافة السرير بقبضتي وصحت:‏

-تقاليدنا!! تقاليدنا!! مالي وتقاليدكم؟ كل ما أرغب فيه، أن يتم زواجي بسرعة... بسرعة! هل كفرت؟! أردت القول "فلا وقت لديّ كي أضيعه" لكني سكْتّ. بانت حيرتها، وكنت حائراً مثلها. ويعتريني شعور دفين بالحزن عليها أكثر من الحزن على شبابي.‏

فضلت التراجع عن غضبي كي لا أجعلها تغوص مثلي في أوحال عذاب مستديم.‏

تنهدت لأروح من غيظي. إذا إن واجبي يحتم عليّ الهدوء والالتزام بأبسط نصائح الطبيب، قبل أن تعاودني الحالة من جديد. فالصداع الذي استعمر رأسي ولم يتركني منذ كأس العميد، لا يرحم. وإذا ما عاد فسيطرحني في الفراش ممزقاً، محطماً لأيام... لا يعلمها إلاّ اللّه.‏

-اذهبي يا أمي. أرجوك دعيني أرتاح قليلاً. وسأذهب إلى الملاّ بعد أن آكل..‏

زفرت بحرقة وكشفت عما بها من مرارة:‏

-تأكل!! ماذا تأكل؟ لا يوجد في البيت شيء يؤكل. ولا أملك درهماً لأصرفه عليك.‏

صعقت! أيعقل أن يفرغ بيتنا من الطعام؟ وتفرغ جيوب أمي من المال؟ بيتنا الذي كانت عمتي تصفه بأنه أفضل من دكان زوجها! وأمي التي وعيت على الدنيا وجيوبها ملأى بالدنانير... وصدرها يضج بلمعان القلادتين، وتحتشد الأساور والمعاضد الذهبية بمعصميها!‏

التقت نظراتنا المستغربة الحزينة فأكملت ودمع غزير صامت ينساب علىخديها.‏

-لم أبع صوفي بعد. وأختك لم تذكرني منذ يومين!‏

-ألم تقصدي دكان الحاج صالح؟‏

-استحيت... كثرت ديوننا.‏

-وعمي!! ألم تذهبي إليه؟‏

-عمك حسن ليس أحسن منا. دكان الحلاقة لا يدر ربحاً. ولولا الملاّ لهلك... ثم إننا أثقلنا عليه..‏

دخت. أمسكت رأسي دهشة وقنوطاً. وقبل أن أقع في شر الاضطراب تماسكت وطالبتها بهدوء:‏

-إذن اذهبي إلى ملاّعطا اللّه. اخبريه أننا جياع، ليزودنا بمؤونة الشهر. وأعلميه بأني سآتيه بعد صلاة المغرب لآخذه إلى بيت عم مصطفى لنكتب الكتاب... فليكن مستعداً، وليحضّر شاهدين... هيّا توكلي على اللّه...‏

لحظت ترددها، فلم أتحرج. زفرت بعمق ورجوتها:‏

-يا أمي، دخيل اللّه لا تؤخريني... أمامي عدة أعمال. لا بدّ من إنجازها... لا بدّ توكلي على اللّه وانهضي..‏

تمعنت في وجهي بأندهاش صارخ، كأنما تراني لأول مرة في حياتها. حاولت أن تستوضح مني إلاّ أن طبيعتها الهادئة ألجمت اندفاعهما في التصريح عما تحس به.‏

-قولي له: إن كاكاحمه يعرف كل الحيل والآلاعيب جيداً. لذا فهو لا يحب سماع "أعطونا مهلة نأخذ رأي البنت وأمها" أو"دعونا نستشير ونأخذ خيرة" لا يحب.‏

أدركت فشل محاولاتها فتركت مغزلها على الأرض، وابتعدت قليلاً.. ثم فرّت من أمامي كغزالة مذعورة. الجوع أشعرني بصداع! بداية صداع قد يهدني. وعلى غير ما تعودت، قررت التخلص منه بنسيانه. فبدل أن أدس رأسي بين وسادتين أرتجف وأبكي، رحت ألوب في أرجاء الدار. لم أرد البقاء طريح الفراش، لا أقدر أن أرى نوراً أو أسمع ضجة لدقائق، بقيت أذرع فناء الدار جيئة وذهاباً. استرجع لحظات سوقي إلى الخدمة العسكرية كجندي مكلف. واختياري من قبل "العريف إسماعيل مونرو" للاشتراك في ألعاب القوى وساعات التدريب الشاق وفوزي المتكرر، لسنتين متتاليتين بالمرتبة الأولى في كل المسابقات.‏

هدأت وخف الألم. ولم أجد مفراً من المضي إلى بيت المخرف، لأعاتب بشيرة ولأستفسر عن عيسى، ولأتناول عندهم ما يمسك رمقي. فأمي ستتأخر دون شك...‏

سرت بسرعة، لم أبال بتحيات من قابلني. ولم أرد على سلام أحد منهم. حتى أني لم أجب على أسئلتهم...‏

كان بيت المخرف في نهاية الطريق الرئيسي، واسعاً، متميزاً بلونه الأبيض. تحيطه حديقة عامرة مسوّرة بأعمدة خشبية متينة، يليها نبات الآس ذو الرائحة الطيبة. وتظلل بابه العريض عريشة عالية من الكروم. تحتها مدت حبال غسيل نثرت عليها ملابس ملونة زاهية، وعلى خشب السور غسيل منشور بكثافة.‏

لفت نظري منظر الدجاجات وهي تنتشر بكثرة، تدور هنا وهناك وعلى قرب كانت مجموعة من عصافير الدوري تغمس مناقيرها في الطشت النحاسي. فتمنيت اقتناصها وأخذها إلى أمي لتشويها في التنور.‏

استقبلني أطفال بشيرة الثلاثة تسلقوا ظهري وكتفي كالقرود، فرحين مستبشرين. وخرجت الكبرى حنان تحمل الرضيع سامر شبه عار. أردت توبيخها بسبب برودة الجو، فلاحظت بقعاً حمراء على جلده. وهممت بسؤالها عن سر ذلك فشاغلتني انهمكت في تفتيش جيوبي مستفسرة: -ألم تجلب لنا حلوى يا خالي؟‏

-خالكم المحترم لا يملك سوى قلاقيله.‏

أجاب عني صوت هازئ ناعم التفتّ مدهوشاً فشاهدت افتخار تطل من الباب الداخي، وتقترب مني. سر قلبي لرؤيتها وانتشت روحي. بدت نوعاً فريداً من النساء، لم تألفه عيناي في القرية، أصلحت هندامها ورجّلت شعرها فغدت أكثر نضجاً وفتوة!‏

راقبتها وهي تقف ضاحكة. تشد على يدي وتهمس مازحة‏

-أهلاً بالغائب الهارب!‏

وكأنها لاحظت ضعف شهيتي للكلام، وقلة انتباهي.‏

أشارت إلى أطفال أختي بالانصراف ولكزتني بمرفقها.‏

-تعال، أنا في شوق إليك.‏

-عدّت للتحرش بي! ألا تكفين عن ذلك؟‏

ضحكت من غمازتي خديها وهمست بمحبة ودلع:‏

-الحب ليس حراماً يا كاكاحمه!‏

ما زالت ابنة المخرف تستحم بمياه الذكرى، تتعلق بخيوط الشمس الواهية، وتحبني إلى درجة الأحلام. لقد أحببتها بدوري، وسأبقى. فهي لم تزل كما كانت دائماً تضج بأنوثة صارخة. كنت ولم أزل أشتهيها. وحلمت بالزواج منها... لكن اللّه غالب على أمره!‏

قبل أن أعلق هدر صوت المخرف الأجش، يستفر بآزدراء‏

-أهذا ابن خجة؟ ماذا جاء يفعل؟‏

-جاء بتوكيل من عزرائيل ليقبض روحك.‏

صاحت افتختار وهي تمد رأسها صوب الداخل... سمعته يسبها، فسألتها:‏

-ألم يمت بعد؟‏

-أبي لن يموت إلاّ بعد أن يقبرناكلنا.‏

-اللّه يشفيه ويعافيه.‏

-قل يقصف عمره ويأخذ أمانته ادع يا كاكاحمه، دعاء الشريف مستجاب.‏

-هل رشرش الصالة؟‏

أخرجت حشرجة من حلقها ودمدمت.‏

-الصالة فقط! بوله غطى البيت كله. ما عدت أطيقه، ما عدت‏

استشعرت عذابها فسألتها وهي تسحب لي كرسياً، من الكراسي الستة القديمة، المصنوعة من خشب الجوز المصفوفة في الممر.‏

-ألا تساعدك بشيرة؟‏

-بشيرة!! اللّه يساعدها ويعينها على أطفالها الخمسة بسببهم ستجن. يكفيها همّهم وهمّ أخي المحترم يحيى، ثم إنه أبي... وأنا أولى بالعناية به.‏

استأنست بحديثها فقلت وأنا أجلس أمامها مباشرة.‏

-بارك اللّه بك.‏

ارتاحت لجوابي فقربت كرسيها مني وتساءلت بمكر:‏

-أجئت من أجل عيسى حقاً؟ قيل لي إنك سألت عنه.‏

هل جلبت له أمر التعيين كما وعد الجمولي؟‏

هززت رأسي نافياً وتمنيت أن أسمع منها ما يفرحني لأبدأ مع أخيها بتحقيق الأمل الذي راود خيالي وسكنه، منذ كلمني مجيد عن الفائدة الكبرى، والذي فكرت به أكثر من أي شيء آخر، وباهتمام فاق تصوري.‏

-ذهب إلى بغداد ليشتري كتباً جديدة، ليتثقف! لأن شهادة دار المعلمين لم تكفه! أخذ حفنة دنانير من أبي!‏

-هل يطول غيابه؟‏

-لا بالتأكيد... ستجده هنا الأسبوع القادم، لكن، قل لي ماذا تريد منه بالضبط؟ إذا كنت تريد أن تفتح له مدرسة هنا، ليكن في علمك إذن... إنهم لا يسمحون لك..‏

أزعجتني بسخريتها المريرة، فحاولت التهرب من ذلك:‏

-وأين بشيرة ويحيى؟‏

-أختك في مملكتها. واللّه، دخلت المطبخ منذ الصباح، ولم تخرج بعد! سمعت بعودتك وأرادت المجيء إليكما فلم تجد الوقت... وأخي خرج بعد الفطور ولم يعد بعد!‏

-ماذا طبختم اليوم؟ أنا جائع..‏

-حاضر... على رأسي وعينيّ الاثنين.‏

-أريد شيئاً خفيفاً.‏

حركت حاجبيها دهشة وضحكت:‏

-أراك مستعجلاً!‏

لم أحب المراوغة والكذب قلت:‏

-سأخطب هدهد الليلة.‏

بهتت لحظة ثم أفلتت ضحكة هازئة، كأنها هجست "دعابتي" فلم أجد بداً من مصارحتها دون تردد:‏

-وسأتزوج غداً.‏

صعقت، تطلعت إليّ بعجب. قرأت تصميمي وتأكدت من صحة كلامي. فأربد وجهها وأسوّد. ولاح لي أن حزناً غريباً يطل من عينيها، حزن الإحباط قبل أن يتملكها الغيظ وتصيح باستخفاف:‏

-هداية؟! هداية؟!‏

يبدو أنني تعجلت بنثر "قباحتي" أمامها وما عاد هناك من مفر. أجبتها:‏

-نعم، ابنة عمي مصطفى.‏

أطلقت صفير استهجان وسخرت:‏

-عمك!! عمى اليعميك..‏

بعدئذ اختنق صوتها وانطفأت الكلمات فوق شفتيها وبينما لفّها الذهول والصمت رحت استعرض بدايات حبنا كيف صارحتها بحبي واتفقنا على الزواج وتعاهدنا. كنا ننزوي هنا وهناك بناء على أمرها ورغبتها. تنسل قربي وتسحق نهدها البارز على كتفي وتروح تغمر وجهي بقبلاتها النارية.. وكنت دائماً آستأذنها وأخذ شيئاً من الحساب.‏

فجأة، نطقت بصوت مخنوق:‏

-أتتكلم من عقلك؟‏

-لا... من بطني.. ألم تسمعي جيداً؟‏

آستاءت من سخريتي. لم تستطع إخفاء نظرة حزن هاربة من حدقتيها، وهي تلجأ للملاذ الأخير كحل، سعياً منها للعرقلة، تماماً كما فعلت أمي:‏

-والمختار!! ماذا تقول له؟‏

-سأكلمه.. وسآخذ موافقته.‏

-ألا حرمة للموتى لديك! إنها جدتك!‏

-أخت جدتي.‏

اكفهر وجهها بسبب الفشل. وكدت أصيح "ابتسمي أيتها الحبيبة، فالأبتسامة تزيد الوجه إشراقاً".‏

تملكتني رغبة جامحة في معانقتها، احتضانها وإعادة علاقة استمرت سنوات وانقطعت قبل أشهر. إنها حبيبة القلب الأولى. أحببتها من صميم قلبي وحلقت معها قبل مرضي، على متن آمال عراض... وأمي تعرف ذلك، لكنها خطبت لي شذى بنت عمتي نكاية بالمخرف.‏

لقد سمنت افتخار! والمرأة تسمن ما دامت في البيت، وتسمن أكثر في الشتاء. لكن هل ستبقى على ما هي عليه الآن بعد الذي سمعته؟ وبعد زواجي؟‏

ابتسمت لها وانتظرت استجابتها. ترقبتها بأمل. وفهمت مرادي وبدل أن تستجيب لاحظت انفعالها، أرتعاشة شفتيها اختلاج خديها واصفرار عنيها. وحسبت إنها ستهدأ سريعاً وتستكين وتتخلص من دوامة الصعقة. فإذا بها تزمجر مغتاظة:‏

-أين وعودك لي؟ سلمتك نفسي يا كاكاحمه!‏

-لم يتعد ما بيننا القبل.‏

-أتظنها لا تكفي للذبح؟ لو علم إخوتي بها لذبحوك قبلي ذات مرة، لمحنا يحيى ونحن نتبادل الحديث همساً، تحت العريشة فغض الطرف عنا. لاحظته أنذاك، وهو يبتعد خفية حتى لا يشعرنا بوجوده، ويحرجنا... لكن يوسف القصاب لم يسكت حين رآنا. صارحني علانية "إنني أشعر بالقلق كلما لحظت النظرات الغريبة التي تتبادلانها. ولن أسمح لكما بالانفراد".‏

أحسست بقلبي يغوص في صدري... فحدثتها بصراحة. فلم يكن أمامي إلاّ جرحها بصورة مؤقتة بدل تحطيم حياتها.‏

-صحيح أنني اتفقت مع يحيى على الزواج منك، لكني فكرت فيما بعد، فوجدت أن العقل والمنطق يمنعان زواجنا... فأنت أكبر مني بخمس سنوات.‏

أسقط في يدها فشهقت:‏

-عجيب!‏

وبدل أن تنخرط في البكاء افتعلت نبرة هزء في صوتها ونهرتني:‏

-الآن عرفت يا شاطر! ألم تعرف من قبل؟‏

-لا أريد ظلمك يا افتخار، فأنت شابة طموحة، ربما لا تحتملين إفلاسي ومرضي.‏

كشرت عن أسنان لؤلوية وبسطت راحتيها راضية مستأنسة وأعلنت:‏

-أنا موافقة على كل ما بك يا كاكاحمه... موافقة...وأبصم لك بالعشرة... أنا...‏

اختنقت لفظة (أحبك) في حنجرتها.‏

-وأنا لا أملك كما تقولين سوى قلاقيلي. وهدهد لا تحتاج إلاّ لهما.‏

استولت على روحها قبضة خانقة فزفرت بحدة، ثم فركت صدغيها بسبابتها والوسطى وتساءلت:‏

-لِمَ جعلتني انتظر كل هذه المدة؟!‏

سكتّ فطفرت حبات الدموع من عينيها المكحلتين، وسال الدمع الأسود فوق خديها، راسماً خطوطاً رفيعة، دروباً طويلة كطرق مظلمة، فآلمني منظرها لكني لم أظهر ليونة، صحيح إنها ستظن وتظن، ولكن سرعان ما تتأكد من بطلان ظنونها لذا تابعت "وقاحتي" كي أدخلها في يأس تام.‏

-أمي تقول: إن من يتزوج امرأة تكبره سناً يموت قبلها.‏

-كذب... لعنة اللّه على أمك. تزوج سيدنا محمد (ص) السيدة خديجة وهي أكبر منه، وماتت قبله! وخجة! كانت أكبر سناً من أبيك؟!‏

أردت ردعها برد يفحمها. غير أني لم أجد ضرورة لذلك تراجعت، وتلافيت زلة لساني. استطعت أن أسترد الكلمات قبل انزلاقها.‏

غمرتها الكآبة والخيبة وهي تقول:‏

-أنت تخشى أخوتي، فتتهرب مني..‏

-أعوذ باللّه.. ولِمَ هذه الخشية؟! لو أردتك يا افتخار لأدخلتك الغرفة الآن.‏

شع جبينها بالفرح وفي أعماقها صرخ صارخ يعلن رغبتها في تحقيق ذلك، وإن تظاهرت بالسخرية.‏

استهزأت مني بلسان متلعثم. ووقفت مطوقة خصرها وكأنها تتحدّاني ولسانها يلهج خفية "لو كنت رجلاً بحق فنفذ ما تقول... افعله بلا تردد..."‏

-أليس صحيحاً ما أقول؟‏

سألتها فرفعت رأسها بكبرياء مشيرة بالنفي وزعقت:‏

-أتظنني "هبة الغجرية"؟!‏

راحت تتكلم وتتكلم. ولم أسمع كل ما قالته. شعرت بالصداع وخفت أن يعتريني الدوار الشديد. فمعدتي بدأت تعضني من الجوع. حاولت إخفاء ارتعاشة شفتيّ ويديّ بسبب وجيب القلب المتصاعد. إلاّ أنها فطنت لم يغب عنها شيء من ذلك.‏

-ما بك؟ إنك ترتجف! وثمّة حمرة في عينيك... "هذه مصيبتي يا افتخار... أرجو أن تفهمي"‏

خاطبتها في سري وأجبتها بلساني:‏

-ليكن، شيء من الراحة بعد الزواج سيعيد إليهما الصفاء، والنقاء تلعثمت وسألت بخوف:‏

-ألم يصف لك الطبيب دواءً؟‏

ابتسمت بمرارة وأجبتها مستهدفاً قتل آخر طموحاتها:‏

-وصف لي الزواج! قال: تزوج. وسأتزوج هدهد.‏

-مبروك مقدماً..‏

همست رغماً عنها، فعبرت عن أمتناني بارتباك.‏

-شكراً..‏

-يجب أن تدعوني إلى العرس... وإذا لم تفعل سأجعلك تندم وحق اللّه... يا عريس الغفلة...‏

لم يتسنّ لها سماع جوابي. إذا جاءت بشيرة تحمل همومها. وشرعت حال جلوسها في تقديم الشكوى. والحديث عن مشاكلها فتذرعت افتخار لتبتعد.‏

-سآتي لك بشيء تأكله... وأعمل... كأس شاي...‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 01, 2009 8:50 pm

تمنيت أن تبقى للحظات أخرى، لكنها راحت تتعثر بأذيال ثوبها. وتعلق بصري عليها وهي تؤوب بانكسار، دون أن تلتفت، حزنت لحزن افتخار، أدركت أنني آلمتها، قسوت عليها وما كان أمامي حلاً آخر تسببت في أذيتها رغماً عني، ولصالحها فأنا أحبها ولا أريد لها أن تشقى وتتعذب مثلما أشقى وأتعذب... فسأرزح تحت أثقال من الهموم قبل أن أمضي خفيفاً مثل الحلم.‏

كلمات بشيرة الكثيرة المتلاحقة، وحركاتها المثيرة للشفقة أيقظت شرودي.‏

-ضجرت يا أخي، ضجرت وحق اللّه. ما عدت أحتمل أكثر. هذه السنة الرابعة عشرة. وما زلت قابعة في هذا الجحيم خادمة، ذليلة.. قال لي يحيى: سنة واحدة ونستقل في بيت، وحدنا! حنان، كبرت... صارت امرأة. جاءها أكثر من خاطب... أنت أخي الوحيد فأنقذني... دبرّ لي حلاً...‏

ضحكت من هلوستها التي لم تنقطع منذ زواجها.‏

وكالعادة، لم أر غير المزاح، أخفف به عنها.‏

-يا بشيرة، جئت لآكل لقمة ولست حلالاً للمشاكل.‏

-أجئت من أجل الأكل؟‏

استفسرت بامتعاض. فأجبتها:‏

-ليس في بيتنا شيء يؤكل. فجئت لعتابك. منذ متى لم تمري على أمي وتتفقديها؟‏

فهمت ما أقصد فآنفعلت. أبدت تذمرها دون حياء:‏

-أمي!! أمي!! كأنك لا تعرفها فصدقتها. ماذا أفعل وهي لا تقبل أن تأكل في غير بيتها! ولا ترضى بأن تُمد لها يد المساعدة وترفض أي شيء من بيت عمي وعمتي؟!‏

بكت بحرقة وأسهبت في شرح مأساتها:‏

-هي وحدها وأنا برأسي أحد عشر نفراً..!‏

-اطمئني... المخرف سيموت قريباً... فأصبري.‏

استخفت نصيحتي وبربرت، ووجهها يحتقن غضباً.‏

-هذه الأسطوانة المشروخة سمعتها آلاف المرات، قبل الآن. ولم تتوقف منذ خمس عشرة سنة. وها هو عم عثمان أمامك بحول الحي الرزاق أقوى من كاوا الحداد. ماتت عمتي أم يحيى غماً وكمداً. ومات أبي بسببه. وبقي هو من أجل عذابي، ليس إلاّ... قل لي ماذا أفعل؟ أخبرني، انصحني. أريد أخذ راحتي... فكفى عذاباً... كفى...‏

أزعجني إلحاحها فسألتها:‏

-أيستطيع يحيى أن يفتح لك بيتاً مستقلاً؟‏

زاغ بصرها إلى السماء وهتفت برجاء:‏

-يا ريت، أقبل ولو غرفة واحدة... فكوخ يضحك خير من قصر يبكي... ثم لوت عنقها بقهر كأنما تذكرت الحقيقة وأكملت:‏

-يحيى لم يزل يأخذ مصروف جيبه من عمي.‏

-وإذا استطاع، فبالتأكيد لن يتمكن من توفير نصف ما يتوفر لك الآن من طعام.‏

ضربت كفاً بكف وشهقت:‏

-أنا لم أشتك من قلة الطعام... فالخبز وفير والحمد للّه، وعمي والشهادة للّه لم يبخل علينا بشيء، إنه يصرف دونما حساب.‏

-جيد. أنت تمتد حين الجانب الطيب منه. إذن فعليك التحمل...‏

-إلى متى؟‏

-هل تمنع افتخار عنك الطعام؟‏

-لا.. إنها أخت وحبيبة..‏

-أيؤذيك أحد؟ هل أسمعوك ما لا يليق... ما يخدش الحياء؟‏

-لا.‏

بكت وهي ترد، عضني الجوع فأحسست بالضعف، ثم بوجع القدمين، وارتخاء في الأعصاب، مثلما شعرت بالضيق من حديثها الممل.‏

-هل يقصر معك زوجك بشيء؟‏

أخجلها سؤالي فركبها الحياء وغمغمت:‏

-لا..‏

-إذن اخرسي. اقفلي فمك ولا تكرري عليّ أقوالك التافهة. وأحمدي اللّه، وأشكريه على هذه النعمة المباركة... وتأكدي أن عمك المخرف سيموت يوماً...‏

لابدّ أن يموت وعندئذ سيرث زوجك ثروة طائلة...‏

قدمت حنان بصينية الأكل. تناولتها أمها ووضعتها أمامي على أحد الكراسي، وهرعت الصبية إلى الداخل كالمهرة. تناولت لقمتين أو ثلاث. ثم تركت كل شيء ونهضت استغربت بشيرة:‏

-أنت لم تأكل شيئاً!‏

-أشبعني لغوك الفارغ.‏

عادت حنان تحمل الصغير سامر، وهو عاري الساقين:‏

-أبق أشرب الشاي يا خالي. ستجلبه عمتي.‏

-لتشربه أمك...‏

كنت مرهقاً وعلى يقين أن عشرات من كؤوس الشاي وفناجين القهوة، لن تفلح في إخراجي من حالة الإرهاق.‏

-أضجرت مني؟‏

لم أجبها، تطلعت إلى ساق الصبي وعجبت:‏

-ما هذه البقع على جلد ابنك؟‏

تنهدت بشيرة بعمق وأجابت:‏

-إنها خير دليل على بؤسي وشقائي. هذه من أثر "الشوطة" رضعته من صدري وأنا في قهر وغضب.‏

-عليك بفوح الرز اغسليه لمدة أسبوع وسيزول كلياً.‏

-يا ما شاء اللّه... صرت طبيباً!‏

سخرت وهي ترافقني إلى باب الحديقة.‏

-أرسلي دجاجة إلى البيت... نظفيها جيداً..‏

-حاضر... سأبعث اثنتين...‏

-ليمر عليّ يحيى غداً صباحاً... أريد رؤيته لأمر هام.‏

-عيسى أم يحيى!‏

سمعتها تصيح بدهشة وأنا أبتعد.‏

خطر على بالي الملازم علي. فرددت لازمته المحببة.‏

"العصفور لازم يشق الريح"‏

وعليّ أن أفعل ذلك..‏

في الطريق إلى البيت رأيت بقرة سعدو، ممددة وبجانبها وقف ابنه راضي يرمي كلب نصار بأحجار صغيرة ليبعده عنه.‏

تطلعت إلى السماء عليّ أرى الغيم الأسود. فها هي البقرة المتمددة تنذر بسقوط المطر... تتنبأ به... راقبت الصبي. أعجبني تصويبه، دقته المتناهية! وراقبت الكلب. ابتعد قليلاً، رفع رجله وبال.. ثم هرول باتجاه المقهى ففرت في تلك اللحظة جوقة من العصافير. تنسمت هواءً عذباً أنعش صدري. وتمنيت أن التحف السماء وأنام. غير أني أحسست فجأة بازدياد خفقات قلبي.‏

اتجهت إلى البيت مباشرة عدت صاحياً، قلقاً، مرتجف اليدين قبل أن استسلم لنوبة دوار مفاجئة.‏

استلقيت على سريري.... بانتظار أن تأتي أمي بأخبارها لكنها تأخرت أكثر من المعتاد.‏

تلك الليلة بدت الرياح موحشة. أرعبتني حقاً. ففي عتمة الظلام سمعت عواءها ونواحها" لكني لم أهتم بها طويلاً... التحمت أجفاني بعد أن سيطر الكرى على عينيّ.‏

بعد حادثة الغدر آمنت بأن الحياة جديرة ببذل الجهود في سبيل أدامتها. أمنت بأنها أكبر من أن تكون قبض ريح لا مغزى لها. لذلك كان عليّ إبعاد اليأس عني. ومن ثم العمل بلا توان العمل قبل أن تستولي عليّ تشاؤمية لا حدود لها، تتساوى عندها كل المعايير فأضيع... وأفقد الأمل ويدب التخاذل في روحي ويسيطر الجسد وشهواته على عقلي...‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:23 pm

-2 -‏

استيقظت باكراً على صوت أمي وهي تصلي، تنصتّ لتمتماتها ولدعائها، استعذت باللّه ونهضت من سريري. حيث نمت بعمق وارتياح، لأول مرة منذ أسبوع.‏

توضأت ولبست معطفي وخرجت قاصداً الأرض الشرقية. أرض جدي التي استولى عليها السلماني بالحيلة إثر موت أبي. وأنا أشق طريقي إلى ما حلمت به طويلاً، لفحتني نسيمات الفجر الباردة ورطبت وجهي رطوبة الجو، وتناثرت فوق رأسي حبات المطر القليلة، المختبئة على أوراق الشجر منذ ليلة أمس.‏

على التربة الصلدة صليت. ثم شرعت في إلقاء نظرة شاملة، فاحصة عليها. قررت أن أبدأ معها. أفتتح مشاريعي بها... خططت وحذفت، وسمعت ومحوت، نصبت أسلاكاً وأعمدة وأقمت أسواراً وحدوداً في الهواء، حفرت وطمرت ثم استرحت، بقيت جالساً حتى أشرقت الشمس، وبدأ الناس يتوافدون جيئة وذهاباً. فقررت الذهاب إلى المختار. لكن ما إن ابتعدت عن الأرض حتى قادتني خطاي رغماً عني إلى مقهى نصار!‏

وجدتها مكتظة بالعاطلين، والعمال الباحثين عن العمل، والأزواج الهاربين من ضغط الحياة، وثرثرة نسائهم ومطالبهن.‏

وبسبب الحرب كان عدد الرجال قليلاً. وبعد هجرة الفلاحين أصبح عددهم بعدد الأصابع.‏

استقبلني الأصحاب بالقبل والأسئلة الثقيلة على القلب. وحين أدرت لهم ظهري راحوا يتابعون ثرثرتهم، ويلعبون النرد والدومينو والورق، ويدخنون بشراهة ويتحدثون عن موسم الحصاد الهزيل وظلم السلماني..‏

بقيت صامتاً لم أتدخل أو أشارك في أي حديث. عيناي وحدهما كانتا تتحركان، ولولاهما لبدوت للكثيرين أشبه بالصنم.‏

وكاد صمتي يستمر لولا سعدو. تناهى اسمه إلى مسامعي فتنبهت. تنصتّ إلى الحديث الدائر ففهمت أنه في مصيبة" أصغيت جيداً فسمعتهم يتحدثون عن "ثعبان ولج حظيرة حيواناته فقتل خروفاً ودجاجتين. واستقر في مربض البقرة عزيزة، التي فرت هاربة. ولولا زهرة زوجة سعدو وابنه لما استطاع أن يجد لها أثراً".‏

ونظراً لخبرتي الفائقة مع الكواسر، وشهرتي في الصيد فقد رمقتني العيون. كأنها تترجاني أن أنهض لمساعدته!‏

وكانت فرصتي... راجعت حساباتي، دورت الأمر في عقلي مرات، ثم وثبت فرحاً.‏

-إلى أين يا كاكاحمه؟ إلى أين!‏

هتف أكثر من شخص فلم أجب. أشرت إلى نصار وأنا اقتحم غرفته الملحقة بالمقهى، ليتبعني، ففعل مستغرباً:‏

-أغلق الباب وراءك يا نصار.‏

أمرته ففعل وهو أشد استغراباً.‏

أخرجت رزمة الأوراق من جيب معطفي وسحبت منها ما يخصه. دفعتها إليه، تناولها وتمتم.‏

-ما هذا يا كاكاحمه؟‏

قلبها بيدين مرتعشتين. وفحصها بعينيه الذاهلتين وهمس بفرح طاغ:‏

-إنها الصكوك وسندات الفائدة والأمانة... التي بذمتي لـ...‏

-أطبق شفتيك... خذ الزناد وأحرقها.‏

مددت يدي فاختفى. اصفر وجهه وتردد. فصحت به:‏

-هيّا... لا تؤخرني... احرقها...‏

انحنى على جبهتي، قبلني بحرارة وتناول الزناد.‏

أحرق أصابع الجمولي التي كانت تتحكم به، تحكم قبضتها على رقبته ونثر رمادها على الأرض وداسها بنعليه... بعدئذ تنفس الصعداء.‏

-الآن أصبحت حراً يا نصار... ما عاد الجمولي يخيفك، ويهددك بشيء، فانسى الموضوع برمته، ولا تأت على ذكر ما حصل لأحد: إياك... إياك... وإلاّ سأذبحك بيديّ هاتين..‏

وأنا أمد يدي مهدداً بان "غدر الصقر بجلاء" فتذكرت قطعة اللحم التي اقتطعها الغادر بمنقاره، وازدردها!‏

لمحت طيف ابتسامة على شفتي نصار، القوي الطويل، ابن الاربعين.. والذي شغل القرية بشقاوته ومشاكله قبل أن ينتهي به المطاف "أسير مقهاة"... هادئاً مسالماً!‏

انحنى نصار ثانية وهمّ بتقبيل يدي فرفضت:‏

-كاكاحمه، أيها العزيز، أنت لم تفك رقبتي من الأسر فحسب، بل أعدت لي الحياة من جديد... إنني مدين لك بعمري...‏

-السلام عليكم..‏

قاطعته مودعاً، لم أدعه يكيل لي المديح والثناء، تركته وذهبت إلى المختار ثم إلى الحاج صالح، كل على حدّة، وفعلت الشيء ذاته معهما، حرق الصكوك وسندات الأمانة وتهديدهما بالذبح إذا ما فتح أي منهما فمه. وأخيراً وجدت نفسي حراً، وكي لا يتسرب الضجر إلى روحي كان عليّ أن أبدأ بتنفيذ خططي على الفور، وأشرع دون تردد في استرجاع حقي. فما عاد أمامي مجال للتخاذل، فالأفكار التي تحتشد في رأسي حان أوان إنجازها، لأن الزمن لا ينتظر أحداً... ومن تمر أيامه لا ترجع إليه أبداً. لذا وجب استغلال الفرصة والإسراع في العمل. حتى وإن اقتضى الأمر المجازفة... وليحصل ما يحصل... فلقد ضاعت مني المهجة والبهجة فهان عليّ كل شيء.. كل شيء...‏

واتتني شجاعة مفاجئة، كدت أجاهر بها وأتفاخر ليس أمام نفسي فقط، بل أمام الدنيا كلها. فاندفعت إلى بيت سعدو وكلي إصرار على استرداد كل فلس سرقه منا..‏

تحركت بهمّة وحماس، والخطى تهتف بي "هيّا يا كاكاحمه، لا تتراجع إنها تجربتك الأولى فثبت قدمك... ولا تلتحف بالعجز، عجز الواقع فلن يفيدك بشيء... هيّا اكسب المعركة... إنه امتحانك الأول... لكن إياك أن تفاتح سعدو الان بمسألة الأرض وتنزوير الشهادات... إياك"‏

مضيت قدماً... هادفاً طحن العتمة التي تريد أن تجرني إليها... وأستنبت النور للأيام القادمة، وأقهر اليأس كي تتكسر النصال الحاقدة تلو النصال على جسدي العليل..‏

صادفت بغلة سعدو تسرح بعيداً، وسحابة من البرغش تحيط بها، فعجبت! لأنه يحرص على ربطها في ساحة داره الأمامية، لتكون نصب عينيه وتسهل عليه مراقبتها وإبعاد الأطفال الذين يحاولون ركوبها، أكثر من خوفه من "البكر".‏

وعند عتبة الدار وجدت الصغير راضي، يفترش الأرض. يتلهى بآلة الجرش الصخرية، كأنه يساعد أمه. وقفت أراقبه وهو يجرش الطحين، ويدّور العتلة الخشبية بصعوبة. ثبتّ عيني على الحنوب التي يرميها، لاحظت أن الحبة مهما فعلت لتنجو فلا خلاص لها، تسقط بقلب الطاحونة في النهاية! أدركت مصير الإنسان. وحدست أن اللّه أوقفني لأشاهد الحقيقة. ولأعرف أن لا سبيل لنيل الحق إلاّ الإّقدام، ما دام الأمل معلقاً على سحائب من خوف، ويرسم شارات المصير...‏

اقتحمت الصالة. بوغتّ بالخبيث سعدو يلطم على رأسه، كثكلى فقدت عزيزها الوحيد! وبجانبه جلست امرأته تولول أكثر منه، وعلى وجهها سيماء من حلت بها فاجعة...‏

تجاوز هذا المحتال القصير القامة الخمسين من عمره ولم يزل موضع الريبة والشك من الجميع وإن تظاهر بالبراءة والطيبة استقبلني بوجهه العابس دوماً. رمقني بدهشة، بنظرة مرتابة، كأنه يتساءل عما جاء بي، وأزاح بصره عني حالما اقتربت منه، وحنى رأسه إلى الأرض. بينما ظلت عينا الخالة زهرة معلقة بي... وقفت أمامه. ربتّ على كتفه الأيمن وخاطبته:‏

-ما هي خسائرك يا سعدو؟‏

غزا الاضطراب وجهه كمن أخذ على حين غرة. رفع رأسه الكبير... تأملني في حذر وحنق، وقال بلهجة عتاب:‏

-أجئت تشمعت بي! اذهب جزاك اللّه خيراً... اذهب.. دفعني دفعاً، مسكت يده. انحنيت فوقه وقلت:‏

-لم آت لأجل الشماتة يا سعدو.‏

-إذن لم جئت؟‏

فكرت: أخيب ظنه وأفزعه بصورة غير متوقعة، فقلت:‏

-جئت لأسألك عن عقوبة شاهد الزور، ولآخذ حقي. جن، انتفض كالملسوع وصرخ آمراً:‏

-حقك!! اذهب من هنا... اخرج... هيّا... اخرج...‏

لم أتحرك من مكاني ولم أنفعل! هو يعرف طبيعتي الهادئة. فأنا مسالم "لا أحل رجل دجاجة" وإذا غضبت فالكلمات تخرج من بين شفتي قسراً... ولولا ذلك لما أخذ يدمدم، يرعد ويزبد... ولا أدري ماذا كان سيفعل لو علم بما لديّ من أوراق!‏

لم أبال بصراخه تابعت وعينا زوجته تكادان تطفران من محجريهما وكلمات مجيد "باغت عدوك تنل مرامك" ترن في أذني.‏

-أتريد اللحاق بخروفك ودجاجتيك، أو تدفع فوراً"‏

ارتعش بدنه. ولحظت ارتجاف عينيه وهو يتأملني بغيظ:‏

-أدفع ماذا؟!‏

حاول التملص والمراوغة فأمسكته من كتفه:‏

-دين أبي... كم بذمتك لنا؟‏

-ماذا!! ماذا!!‏

-أبي، أظنك تذكر كم استدنت منه... تذكر جيداً..‏

-أمجنون أنت؟! اخرج... اخرج..‏

أحكمت قبضتي على رقبته وهددته:‏

-سأمهلك دقيقة واحدة فقط لتتذكر جيداً، وترد الدين وإلاّ فسأدفعك إلى حيث الثعبان.‏

ازداد جنوناً فصاح:‏

-اتركني... اتركني يا مجنون.‏

لطمته على رأسه فهطلت دموعه.. وحاول أن يقاوم فرفسته على خصيتيه فجأر من شدة الألم.‏

وهبّت زوجته متوسلة بعد أن بانت لها جديتي.‏

-ماذا بك يا كاكاحمه! اتركه... دعنا في مصيبتنا.‏

-لا تتدخلي يا خالة زهرة.. أرجوك... أنت امرأة مؤمنة.‏

نهرتها فسكتت على مضض... وعاد هو للصراخ والتهديد:‏

-سأشتكيك إلى الآغا السلماني... سيدق عنقك. شددت ضغطي على رقبته وهمست:‏

-مضت نصف دقيقة.‏

لم يبد تخاذلاً، أو يظهر استسلاماً مما أجبرني على سحبه بقوة نحو الداخل، إلى حيث المربض، وهو يجأر ويرفس الأرض بقدميه. وإذ حدس عدم جدوى ذلك، قام بحركة يائسة من يده تدل على الخضوع.‏

أدخلته المربض، فلحقت بنا الخالة زهرة، وفي عينيها فزع كبير. تتساءل باستغراب:‏

-ماذا تريد منه يا بني؟ ماذا تريد؟!‏

-أريد استرداد حقي... دين أبي الذي أنكره سعدو...‏

-أي دين هذا يا كاكاحمه؟ أي دين؟!‏

-خالة زهرة.. أرجوك لا تتدخلي... هذا الخبيث يعرف كل شيء...‏

-وأين كنت طوال هذه السنوات؟‏

-كنت غبياً، لا عقل لي. والآن عقلت فجئت آخذ حقي...‏

-لا شيء لك عندي.. لا شيء..‏

هتف سعدو بعناد وقدماه لم تتوقفا عن الرفس.‏

-صحيح أنك بغلت يا سعدو وصرت بليداً، لكنك لم تنس ما بذمتك حتماً... ينسى الدائن ولا ينسى المدين، أليس كذلك؟‏

خرس ولم يحر جواباً. تمنيت من كل قلبي أن تجري الأمور كما يجب، وقبل أن أدنس يدي وأتورط بعمل أندم عليه... لكن سعدو لم يتح لي مجالاً للتفاهم، فاضطررت إلى سحبه.‏

-سأرميك وحق اللّه. لن أدعك تفلت من بين ناب الثعبان...‏

-دخيلك يا كاكاحمه... دخيلك...‏

-قل، كم بذمتك لأبي؟ قل..‏

امتنع عن الكلام. وبدأ المقاومة حاول الإفلات لإنقاذ نفسه، وخشية أن يستقوي عليّ ويفلت من بين قبضتي ومهاجمتي وعندها أخسر سمعتي وتضيع مني كل الفرص لتحقيق ما في ذهني من المشاريع، لطمته ثانية بقوة ودفعته إلى الداخل...‏

تهاوى على قدمي مرعوباً.. واعتقدت أنه سيستلم فإذا به يهبّ واقفاً يروم الخلاص، فأعدته واللطمات تتوالى على رأسه أنذاك فقط أيقن أنني لا أمزح! فرفع يديه مستسلماً بصق دماً، وحدجني بعجب وعض إصبعه وضغط عليه بما تبقى له من قوة وأعلن بيأس:‏

-مائة وخمسون ديناراً.‏

-والفائدة؟ فوائد أكثر من خمسة عشرة سنة.‏

لنقل إنها أربعون، خمسون.. يصبح المجموع مائتا ديناراً زائدا عشرة دنانر عن الحلال والحرام...‏

-مائتان وعشرة... مائتان وعشرون... اتركني، سأدفعها لك فيما بعد...‏

-لا... ستدفعها فوراً..‏

-لا أملك فلساً واحداً..‏

لا تكذب... قبل أسبوعين سلمك الجمولي ثلاثمائة وخمسون ديناراً... حصتك السنوية..‏

ارتعب، وتطلعت الخالة زهرة إليّ تستقرئ في ملامحي حقيقة ما سمعته، لقد فاجأتها حقاً وأدهشتها، ظلت لثوان تنظر مستنطقة عينيّ. ثم تمتمت بذهول.‏

-ثلاثمائة وخمسون ديناراً! من أدراك بها؟‏

-أنسيت أن الجمولي زوج خالتي.‏

اكتفيت نحو سعدو يتملكها الغضب وسألته باحتقار:‏

-لِمَ أخفيتها عني؟‏

-أراد الزواج بها.‏

-كذب... لاصحة لذلك.‏

اعترض سعدو فرفسته في خاصرته. وجنت زوجته حين كشفت لها المزيد من الأسرار:‏

-ألم تتوسل إلى كهرمان لتتوسط لك مع ابنة أخيها؟‏

-من هي كهرمان...؟ تساءلت زوجته بذعر. أسقط في يده فخاف استطرادي، رمقني بنظرة ذعر وتوسل، بألا أزيد النيران لهيباً.‏

-إنها قصة طويلة، لن تنفعك، مهمتنا الآن تنحصر في قص جناح هذا الخبيث.‏

-سأشعل موتى موتاه..‏

صرخت وهمّت بمهاجمته، فانكمش وتراجع مذعوراً. حجزت بينهما. منعتها قائلاً:‏

-هيا سلمني المبلغ.. لا وقت لديّ... سلمه بيد خالتي زهرة لتعطيه إلى أمي... بيد أمي...‏

بدا مرتبكاً حائراً، لا يدري ماذا يصنع. وأصبح لصوته رنة تضرع وهو يحدث زوجته، التي راحت تولول وتندب حظها.‏

تقدمت منه وشددت الخناق.‏

-هيا.. لا تؤخرني... لن أتركك قبل أن تدلها على مخبأ نقودك سلمها المفتاح أولاً... هيّا..‏

أظهر خنوعاً تاماً، حرك أصابعه المرتعشة باتجاه رقبته الطويلة. انتزع منها خيطاً رفيعاً، تدلى المفتاح في نهايته.‏

-تعالى... خذيه..‏

ناديتها فلم تستجب. كانت ترتجف من الغيظ. تود نهش لحم سعدو المر... أخذت المفتاح من يده ورميته إليها.‏

-هيّا... لا تؤخريني... خذي مائتين وعشرين ديناراً... سلميها لأمي... بيدها... ولتأت إلى هنا لتعلمني.. وخذي الباقي... إنه حصتك أنت وابنك.. اشترى لك ثوباً ولراضي كل ما يحتاجه... هيّا.‏

كلمتها بانفعال فتحرك الدم في أوصالها. واندفعت بجسدها الطويل المكتنز تلبي ماطلبته. فبانت عجيزتها تتراقص من شدة الفرح.‏

أخرجت سعدو من الحظيرة وأجلسته قرب بابها.‏

-ابق هادئاً... لا تتحرك وإلا دفنتك.‏

أمرته وأنا أتربع على بعد خطوات منه. لم أسمح له بكلمة واحدة.. رحت في سبات اليقظة... خيل إليّ أن "النقيب خالد" يقف على رأسي يبسط كفه مرحباً ويمد ذراعه ليسحبني ففززت صحت به:‏

-اذهب.. اذهب.‏

-حاضر... حاضر..‏

سمعت صوت خالتي زهرة. وهي تستدير وتمضي سريعاً... تحمل رزمة الدنانير، ابتعدت زهرة عن عينيّ لتحل محلها صورة الصغيرة "مها" تنتظر أباها. وبجانبها أمها "سناء" منفوشة الشعر محمرة العينين، تبكي بحرقة تفتت الصخر آلمتني فمددت يدي لأواسيها فسبحت في الهواء! وحلت صورة أمي محل صورتها!‏

جمدت وانقطعت أنفاسي... للحظات مبهوراً بزغ وجه أمي الضاحك وهي تستفسر والدنانير تملأ كفيها:‏

-ما هذا يا بني؟ لمن هذا المبلغ؟‏

لا أدري كم من الدقائق مضت! لكني عرفت بنجاحي... بهرت وعادت أنفاسي تنتظم... لقد نجحت أولى مشاريعي..‏

-هذا هو المبلغ الذي استدانه سعدو من أبي" وأنكره بعد موته... احفظيه عندك إلى حين...‏

-أتذكر... كان ذلك منذ زمان!‏

-خذي خالتي زهرة.. لتشتري ثياباً وطعاماً لها ولراضي.. حاولت أمي الكلام مثلما حاول سعدو فمنعتهما:‏

-اسمع يا سعدو.. سأكافئك على الوفاء بدينك وحفظك للأمانة، كل هذا الوقت، بإخراج الثعبان من بيتك... دهشت أمي فصاحت محذرة:‏

-لا.. لا تفعل... إنه ثعبان سام... ليس صقراً أو نسراً أشرت إليها لتخرج ففعلت مع المرأة الفرحة... وزحف سعدو مرعوباً لا يكاد يصدق... لم بنبس بحرف وفر من وجهي معتقداً أنني أنقض على مصيري معصوب العينين.‏

غدوت وحيداً فتنبهت إلى محتويات الممر الفاصل بين الصالة والحظيرة. خزانة خشبية كبيرة، بلا أبواب رصت على رفوقها أكياس المؤونة، والعلب المعدنية المختلفة الأحجام وكومة من القضبان الحديدية وحاجات أخرى متنوعة. لم أهتم بها. خطوت نحو الحظيرة.‏

دفعت مصراعي الباب غير المحكم فأنفتحا. دخلت فصدمتني رائحة مقززة. رائحة روث البقر والخراف، مختلطة مع روائح البول المخمر والرطوبة العفنة.‏

ولجت رغماً عني. وراح بصري يفتش عن الثعبان بحذر بان لي دون عناء. يضطجع باسترخاء فوق الرف المقابل حيث علبة السمن الحر!‏

لونه الرمادي المبرقع بالأصفر أثار اشمئزازي. قدرت طوله بمتر ونصف وتحفزت.‏

عاد الصقر يذكرني بغدره. بالدم الذي سال من يدي ومن عينيه. فالتهب صدري بشعور لم أعهده من قبل. شعور يستعذب الألم ويستهين به. فلم تمسني الرهبة أو يتملكني الخوف.‏

تناولت عصا غليظة وتقدمت بقلب ميت.‏

أحس بي فرفع رأسه ورآني، انتصب، تماوج. وفح منذراً متوعداً، وهز ذيله... وتحرك.‏

فجأة، وكالسهم شب عليّ، فابتعدت، ضربته ضربة ماحقة إلاّ أني أخطأته، سقط قرب قدمي حاولت التخلص منه، فسبقني. كان أسرع مني وأكثر خبرة في الغدر. وثب على ساقي، التفّ حولها بمهارة وخفة، وأنبت نابه في لحمي بلؤم.‏

أحسست بألم العضة فشهقت. شعرت كأن خنجراً حاداً مسموماً يغمد في قلبي. سرى في جسدي ألم مبرح وأنا أمد يدي وأضغط على رقبته بينما راح ذيله يلتف ويضغط كمن يريد شل ساقي.‏

انغرز نابه في عضلتي. فشددت قبضتي، بحيث غاصت أظافري ومن ثم أصابعي في لحمه الطري. وانبثق دمه، مما دعاه لأن يخفف من عضته ويبعد فكيه عني، فازددت إصراراً على محقه من الوجود.‏

سحبته سحباً، انتزعته ورميته أرضاً، وأبقيت رأسه في قبضتي، نطحته بالجدار القذر مرة مرتين، ثلاثاً حتى هرسته تماماً. وحين أسلم الروح نزعت حزامي وربطت ساقي بإحكام.‏

تركته وخرجت. لم آبه للألم ما دامت الأيام تمر تباعاً من تحت أنفي وعيني مرور الكرام. لكني تساءلت:‏

-أيعجل هذا في مصيري؟‏

اتجهت إلى باحة الدار، فوجدت سعدو واقفاً يتلصص جلست وعيناه تراقباني بدهشة ممزوجة بالرعب. تنفست بعمق ومسحت العرق المتصبب من جبهتي، ثم أخرجت سكيني شرطت ساقي تشريطاً. ورحت أمص موضع العضة، وأعصر أمص وأعصر... وأبصق ما يأتي من دم وسم إلى فمي على الأرض. ولم يحتمل سعدو المنظر فأنفتل خارجاً، ملتاعاً يطلب النجدة!‏

جاءت أمي ومعها زهرة، ولحق بهما بعض الرجال وعلى رأسهم نصار وبأمره تناوبوا إلى مص السم والدم الملوث وقذفه إلى الخارج.‏

أحسست بخدر ثم تورم ساقي.. أرادوا تمديدي على ظهري وإجراء اللازم فرفضت. سمحت لهم برش الخمر المعتق على الجرح.‏

وجاء عمي حسن يرتعش من الرهبة. استفسر من الموجودين وحين تأكد أنهم أدوا الواجب، أمرهم بحملي إلى أرض الصبيرة. وهناك مددني وحقنني بإبرتين. وأنهمك في قطع كمية لا بأس بها من الصبير الطري، قشرها بسكيني وأمر نصار بدهن موضع العضة والجرح. ثم موضع الخدر، والساق بكامله... واتقاءً لكل المضاعفات تعريت أمام الخلق وراح نصار يدهن الجسد بكامله جاءت أمي لتساعدنا وهي تبكي...‏

-لا تخافي عليه. جسمه أقوى من أن يؤثر به سم ثعبان عجوز مازح نصار أمي فضحكت وضحك الرجال وهم ينصرفون تباعاً.‏

-وهذا ليس أوان موتي..‏

طمأنتها فارتاحت.‏

أضفت وأنا أرتدي ملابسي الداخلية:‏

-هل أعطتك الخانم ما طلبته؟‏

صفن عمي لرؤيتها تتلعثم وتجيب بعد ثوان:‏

-أعطتني... لكنها استغربت.. ورجتني ألا أخبر الأغا إذا عاد.‏

-وما دخل هذا الكلب! أهي ملابسه التي أخذناها؟!‏

إنها ملابس نسائية لا يلبسها هو!‏

-هل تحتاج لشيء يا بن أخي؟‏

استفسر عمي بحنان. فعدت للتحقيق مع أمي:‏

-ومصطفى، هل أعد مستلزمات العرس؟‏

سكتت برهة كمن تصقل كذبة، وتلفق أقوالاً عن لسان غيرها لتريحني:‏

-يابني، مستلزمات العرس لا تتم في ساعة! مصطفى فرح حقاً وإن أبدى استغرابه. أنت فأجأتهم بطلبك!‏

-يعني وافق.‏

-بالطبع يوافق.‏

-أتتزوج يا كاكاحمه دون علمي؟!‏

تنهد عمي مدهوشاً فأجابته أمي:‏

إنها خطبة.. أخذ رأي فقط.‏

-على بركة اللّه.. على بركة اللّه..‏

ردد بطيبة تبادلت مع أمي النظر وسألتها:‏

-والملاّ؟ ماذا قال لك؟‏

لم ترد. فهمت من عينيها المحرجتين موقفه.‏

-رفض أليس كذلك؟ حسناً.. سأذهب إليه بنفسي.. وسأنتف لحيته.‏

-لا... يا بني لا... الملاّ رجل يحبك، لكنه استغرب.‏

-كلهم استغربوا!! استغربوا!! ألم يتزوجوا قبلي؟‏

-ماذا طلبت منه يا كاكاحمه؟ قل لي علّي أستطيع تقديم الواجب.‏

عرض عمي مساعدته فتدخلت أمي.‏

-إنه يريد الزواج من...‏

أغضبتني أمي فقاطعتها بحدة:‏

-اسمعي يا خجة، وليكن عمي شاهداً. إنني سأتزوج هدهد. وإياك ...إياك أن تمانعي... أوتسمعي مصطفى أو زوجته كلمة تسيء إليهما...‏

-هداية بنت مصطفى!‏

تمتم عمي بعجب فصارحته:‏

-هي يا عمي، ألديك اعتراض؟.‏

أخذته الرجفة فأوضح:‏

-اختيار موفق يا كاكاحمه... بارك اللّه بك.. بارك اللّه. أفرحني رد عمي فالتفتّ لأمي:‏

-أسمعت يا خجة... والآن أعطي لعمي خمسين ديناراً، واحتفظي بالباقي لك وإياك أن تصرفي منها فلساً واحداً على عرسي. إنها أموالك الخاصة. فغر عمي فاه فرحاً، والتمعت عيناه بوميض الدهشة، بينما راحت أمي تعدّ الدنانير:‏

-لم أفهم! من أين لكم هذا المال... كل هذه الدنانير؟‏

لم أجب على سؤاله وأمرته بلطف.‏

-اشتر ما يحتاجه البيت. ولا تنسى الصوف لخالتي هاجر، ستغزل من جديد.‏

-أهي دين يا بني؟‏

استفسر بحرج وأصابعه تتلاعب في الهواء دون شعور.‏

-لا يا عمي.. إنها هدية مني إليك.‏

لم يصدق. تناول المبلغ من يد أمي، يكاد يطير فرحاً..‏

-ومن أين ستدبر نفقات العرس؟‏

-من أين؟! لا تشغلي بالك يا خجة... عدت لأسترداد كل حقوقنا.. ابتدأت بسعدو وسيأتي دور السلماني... كفى سكوتاً يا أمي... -هل أخذت المال من سعدو؟‏

أستوضح عمي بحيرة. فهزت أمي رأسها بالإيجاب:‏

-هذا هو المبلغ الذي استدانه من المرحوم لقضاء حاجة، ثم أنكره.‏

-أعرف ذلك.. أعرف... سألته مرات أن يرده، يعيده إلينا فلم يقبل.‏

-وكذلك لم يرضخ لتوسلاتي، ولم يأبه لمرارتنا وشظف حياتنا.. أكملت أمي بمرارة فتنهدت قائلاً:‏

-واليوم قبل ورضخ رغم أنفه! وسيرضخ السلماني أيضاً، سيدفع ما أريد ذعرت أمي، تحركت صوبي مستفسرة، وتبعها عمي مستغرباً:‏

-ماذا ستفعل؟‏

-كيف؟!‏

-إنها قصة طويلة.. قد لا تصدقانها.. وأنا أنتظر السلماني لأباغته بها.‏

-قصها علينا لنفهم..‏

-أبي لم يبع الأرض ولم يقبض فلساً واحداً... السلماني زوّر الورقة...‏

البصمات التي عليها ليست بصمات أبي... الجمولي زوج خالتي ساعد السلماني دله على الطريقة وشاركه في الجريمة. قال له: سعد اللّه مات، فمن يقرأ ويكتب ويتحقق... ولا أحد يعرف بصمات المرحوم.‏

لا تستغربا.. وأرجو أن تحفظا السر حتى عودة السلماني، لا أريد أن يعرفه أحد غيركما. تطلعا إليّ باندهاش فرجوتهما بعينيّ كي يصمتا. فهم عمي وغيرّ الموضوع:‏

-ربما يتورم جسمك كله.. دعنا نذهب إلى أربيل..‏

-لا تهتم يا عمي.. امض إلى بيتك.. سلّم على خالة هاجر وقبّل الصغير.. اشتر لهما ما يحتاجان. ولا تنسى الصوف.. لا تنس..‏

-وأنت؟ دعنا ننقلك إلى المستشفىن ربما لن تنفعك إبري.‏

-لا تهتم.. سم يأكل سم.. المستشفى، لن تنفعني وما بقي من سم ربما يطيل عمري.. وعليّ استغلال الوقت.‏

-لا أفهم.. ما بك؟! ماذا في رأسك؟‏

-يا عمي، تعلمت في الجيش أن ما يؤخذ بالسيف لن يرده إلاّ سيف أقوى. اذهب يا عمي. وإذا احتجت إليك فسأناديك حلق فرحاً وذهب. تذكرت عمتي " بتول" والاشاعات التي راجت حول إقدامه على ذبحها، تغطية لفضيحة هروبها مع الحبيب! كان عمي في الخمسين من عمره. شبيهاً إلى حد كبير بأبي، مربوع القامة عريض المنكبين، طويل الوجه بارز العينين، أصفر الشعر، يتولى إدارة المسجد وتنظيفه، إضافة إلى محله الصغير، فيتقاضى من الملاّ ما يكفيه لمسك رمقه. فقد أولاده الأربعة تباعاً في الحروب المستمرة والقتال العنيف، في السنوات السابقة، ولم يبق له إلاّ طفل في الخامسة..‏

-أتدرين أنني لم أحس بنخزات شوك الصبار؟!‏

أخبرت أمي بعجب. وأضفت:‏

-لذلك سأنظف الأرض الشرقية.‏

-احذر يا بني احذر.. ماذا دهاك؟ إنها ليست أرضنا هتفت مذعورة، فزدت ذعرها:‏

-ستكون. سأزيل أشواكها وأقتلع صبارها وأرفع صخورها.‏

-يا بني، السم ما يزال في جسمك. ارتد ملابسك، الدنيا باردة.. وربما ستمطر بعد قليل..‏

لم انتبه لتغير الطقس من قبل. تطلعت إلى السماء. دهشت وأنا أراها تتلبد بالغيوم كأنما تريد أن تمطر حقاً كامرأة حبلى تهمّ بالوضع..‏

-أنت على حق يا خجة. امضي اجلبي لي شيئاً آكله..‏

جعت يا أمي.. جعت امضي واجلبي معك المنجل القديم.. إنه على سطح الدولاب..‏

-ألا ترافقني إلى البيت؟ تساءلت بحيرة وحين لم تسمع ردي مضت. راقبتها وهي تبتعد. لاحظت فرحتها. تبدل حالها وتغير مزاجها سريعاً، والمال لا يبدل الأنفس فحسب، بل ينعش الأرواح.‏

حاولت أن استنشق مدى الألم الذي عانته، منذ موت أبي، واستشهاد أخي.. فلم أقدر.‏

رأيتها تقف، تتحدث مع عدد من النسوة والصبايا، كن يتفرجن عليّ عن بعد. خمنت علام دهشتهن وعلام ضحكهن! تمددت شبه عار ورحت أفكر في الأرض الشرقية لقد أدرجتها في أول الجدول.. جدول "قراراتي المصيرية".. أثناء رقودي في المستشفى، وإثر خروجي.‏

جعت وساورني القلق. سيطر على مشاعري! بالأمس، قضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق، سيراً على الأقدام أو طلباً للراحة. نمت ست ساعات بالتمام، وفكرت كثيراً كثيراً فدخت ومن الطبيعي أن أجوع.. لم أفطر اليوم ولم تدعني بشيرة أمس أشبع.. جعت فلم القلق؟!‏

رحت أفكر.. حتى عجزت.. لم أعد قادراً على تحديد سبب القلق الذي بدأ يلهب أعصابي.. لولا افتخار.‏

جاءت مع أولاد أختي. مازحتني حول التعري:‏

-ما فعلها أحد قبلك في القرية!‏

-هل أعجبك منظري؟‏

لكزتني بمرفقها وضحكت:‏

-بعدما "رأتك" كل بنات القرية، ما عدت راغبة فيك.. أضحكتني فأردفت بشماتة:‏

-إنها "حوبتي" أرأيت كيف أشوّر"! حتى تتأكد إنني لم ولن أسامحك إذا..‏

لم أسمع بقية كلامها. آنشغلت بأمي العائدة..‏

جلبت لي خبز شعير وقطعة جبن التهمتها بنهم..‏

وغفوت بجفوني المتثاقلة‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: رد: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:24 pm

-3 -‏

حين أفقت بعد ساعة وجدت أمي إلى جواري، جالسة تتملكها الرهبة. وعلى بعد خطوات كان عمي حسن يتبادل الحديث مع موسى ويحيى وبشيرة ما إن رفعت رأسي حتى أمطروني بأسئلتهم. وانهمكوا يتحسسون حرارتي ويجسون نبضي ويعرضون مساعدتهم..‏

-الآغا يطلبك.. جاء حمودة الذليل لآخذك.‏

قالت لي أمي ويدها تساعدني على ارتداء ملابسي فملكني الفرح وهتفت في داخلي "آن الآوان يا حضرة الآغا.. آن الآوان".‏

-متى عاد.. السلماني..؟‏

-قبل ساعة..‏

-يا اللّه!! كم أشتاق لرؤيته؟‏

-للسلماني؟!‏

-نعم يا أمي.. للسلماني دون غيره..‏

-منعت حمودة من إيقاظك..‏

أوضح عمي. ضحك يحيى وأخبرني:‏

-رأى جسدك المتورم ففزع!‏

-ماذا يريد السلماني منك؟‏

سأل عمي مبدياً دهشته. ولم أجد جواباً مقنعاً غير:‏

-اختصر لي الطريق.. عجل في نهايته.‏

لفظة الآغا وطلبه، أوقدا تحتي نار الحقد الكامن. وأججا التحدي والعنفوان في صدري. لا أدري ما الذي جرى له فيتجرأ الآن ويطلبني! فمنذ أن أمتلك الخوف قلبه بسببي، دأب على تحاشي الاصطدام بي.. هو يعرف كراهيتي له.. ففي أول لحظة وعيت بها على السلماني كرهته، كراهيتي للشيطان! ثم تحولت الكراهية إلى حقد فظيع حقدت عليه. وأضمرت له العداوة والبغض.. وحين اصطدمت معه استحكم النفور بيننا إلى درجة عالية. صحيح أن قسوته جففت الدمع في عيون الكثيرين منا، لكن براكين الغيظ ظلت تمور وتغلي.. وخلال السنين الماضية تراكم القهر. فوق قهر.. وآن الآوان لوضع الأمور في نصابها. ختم الحكاية واسدال الستار، فهو لم يتعظ كما يبدو من اعترافاتي. ولم يكتف بالأشهر الستة.‏

-هل جلبت المنجل؟‏

بدت أمي مستلبة، مدهوشة تجاه السلماني. بالرغم من كراهيتها الشديدة له.‏

-هذا هو، تحت قدميك.‏

أشارت بكف ترتعش. فأنحنيت لألتقاطه وإذا ببشيرة تعلن مخاوفها:‏

-ما الذي ستفعله؟‏

-سأحش به الرؤوس الزائدة.. العفنة..‏

-لا تتهور يا كاكاحمه.. كن عاقلاً.‏

نصحني يحيى وانهالت النصائح والإرشادات. لم أستمع لأحد.. مضيت ومكبر الصوت يصدح بآذان الظهر.‏

كان المنجل قديماً لكن أسنانه البارزة الحادة، شجعتني على المضي قدّماً لأجني ثمار حصاد يائس.. لم أخف، فالخوف بداية الهزيمة.. وكاكاحمه.. أنا.. لا يمكن أن أهزم...‏

في الطريق ألتقيت بمحمد بن سلطان السائق أوقفني وأخذني بالأحضان.‏

-كيف حالك يا كاكاحمه؟ الحمد للّه على سلامتك.‏

-هل ولدت زوجتك؟‏

سألته أمي فأحرجته. ولم ير بداً من الرد:‏

-أكلت شهرها منذ يومين. تعسّرت ولادتها.. وأنا في حيرة.‏

-لا تهتم.. اذهب إلى الحاج صالح، وخذ منه صوف بعير. ضحك من وصفة أمي وأستفهم منها:‏

-صوف بعير!! ماذا أفعل به؟‏

-احرقه أمامها "ستلد حال أستنشاقها بخاره الحار. اذهب فوراً.. لتريحها..‏

-جئت لتوي يا خالة.. أوصيت أمي بنقلها إلى المستشفى إذا حصل طارئ.. جئت على عجل مع الآغا السلماني..‏

-إذن لم تترك أربيل وتجئ إلى هنا عبثاً! لا بدّ أن أمراً مهما أجبرك على القدوم؟‏

حدثته بلهجة الواثق فأجابني:‏

-هادي المخرف أرسل بطلبي... ليبيع أرضاً أو داراً..‏

-أما زلت موظفاً في البلدية..؟‏

-قسم عقارات الطابو..‏

-أعرف.. أعرف.. بعثك الله في الوقت المناسب.. قل لي.. أمعك أوراق بيع وشراء.. زائدة.‏

-لا.. ماذا تقصد؟‏

-إذن أجّل طلب المخرف إلى يوم آخر.‏

-لا أفهم.‏

-أنا في حاجة للأوراق.. أريدها اليوم بالذات.. اذهب إلى بيت المختار وانتظرني هناك.. سأرسل بطلبك بعد ساعة على الأكثر. فأنت متعلم وشورك في رأسك. وتعرف أن لا شيء في قريتنا اسمه الحكومة. لذا سينوب عنها هذا السيد تركته مذهولاً لرؤية المنجل المرفوع عالياً.‏

قصدت دار السلماني والنيران تشتعل في صدري، تضطرم كنيران يوم القيادمة. وصلت الباب بعد قليل، ولحقتني أمي. وقفت بجانبي ترتجف، تبسمل وتستعيذ من شر الشيطان الرجيم. سمعتها تقرأ صغار السور وتهتف بشفتيها:‏

-يا رب، يا من إذا نشدوك وجدوك.‏

طرقت المدقة النحاسية وانتظرت ثم عاودت الطرق بالمنجل، بشدة. مما أزعج حسان، فخرج غاضباً.. وزاد غضبه حين رأني.‏

كان حسان الابن الوحيد للسلماني، شبيهاً بأبيه من حيث التعالي والغطرسة واللؤم وهضم حقوق الآخرين. ولولا "إلهام" التي شاءت الانتقام مني، لما كسر أنفه وأنف أبيه، ومرغا بالتراب. لولاها لبقيا ينهشان لحومنا، ويتغذيان على دمائنا... منذ تلك الحادثة، التي زعزعت هيبة "الآغا" وقفت في عضده، وهدمت صروح ما بناه من ظلم وجور، وكشفت للناس حقيقته، وحسان لا يجرؤ على القيام بما تعود السلماني الطاغي "إذ لزم الوكالة التي استلمها بعد إتهام سعدو بالسرقة وطرده، معطياً لحمودة مسؤولية رعاية البقرات العشر وتربيتهن، إلاّ أنه لم يترك ثوره المميز "البكر"‏

-ألم تر الجرس الكهربائي؟‏

زعق بوجهي موبخاً. وعلى غير ما عرف عني "رضوخ وطاعة" لطمته على كتفه بقوة، فترنح كسكير. وكاد يفقد توازنه. أزحته جانباً وشهرت سلاحي الوحيد. منجلي القديم والحاد في وجهه. وفي وجه الخادم حمودة الأعور. وهو يصادفني في الممر ويعترضني! بهت لحظة وجمد شعرت وأنا أتابع سيري، بنظرات عينه الصحيحة تنغرس في ظهري كالسهام!‏

منذ حادثة "نصار وهبة" فقد دار الآغا منعته، كما فقد سيده نفوذه الواسع وإن ظلّ يحلم بأوهام العودة إلى أيام مجده الضائع على يدي، وسطوته المسلوبة متناسياً أن ما فات قد مات.‏

اقتحمت المضيف. دخلت كالصاعقة صفقت الباب بحدة أفزعت السلماني وضيوفه. فهبّ من مقعده وتبعتني أمي مستلبة مدهوشة.‏

قرأت مقدار ذعره وارتباكه لاحظت بياض شاربيه ومكر الذئاب المنبعث من عينيه. وفي وجهه لاحت معالم الحقد والضغينة كان قابعاً على فراش وثير. وعلى جانبيه وسائد عريضة ملونة، مختلفة الأحجام. وجلس أمامه ثلاثة رجال كبار، كما يجلس الخدم! وأحدهم غريب وسمين!‏

ذهلوا لرؤيتي ولجسارتي، وكأن الطاعون اقتحم ديارهم فألتزموا الصمت وانتظروا كلامي.‏

إنها المرة الثانية التي أدخل فيها، في الأولى كنت معتقلاً ولم يتجاوز عمري الخامسة عشرة، وكان هو عميلاً للسلطة آنذاك اثنتا عشرة سنة مرت. وبات واضحاً أن محاولاته العقيمة لتشويه الحقائق لم تؤد إلى توفير ما طمح إليه من استقرار وغنى -بعد فشله الذريع في احتوائنا-بل أدت إلى نفور وكراهية متبادلة بينه وبيننا جميعاً. مما ولد التوتر والاضطراب في قلوب كل رجال القرية. وزاد الأمر سخونة عندما تبدلت الأحوال، وانعكس الوضع وذابت السطوة. إثر انطمار وزارة ودفن أخرى، وبقي هو في أتون الصراع!‏

لم أشأ الوقوع في شرك الحرج وشباك الارتباك ولن أمكنه من خداعي واحتواء الموقف.. لذا وجب التصرف بسرعة فانتزع حجراً من وسط الجدار الآيل إلى السقوط بين لحظة وأخرى كي أفلح. ألم يقل لي مجيد "باغت عدوك تنل مرامك" -ماذا تريد يا سلماني؟‏

صحت فأرتبك وعاد لموقعه. نظر إليّ بعجب. رفع حاجبيه وكتم غيظه. وذهل الرجال لسكوته، فتطوّع السمين لردعي:‏

-سلم أولاً أيها الشاب!‏

لم أنس بعد مساء السبت الأول من تموز 1963 حملتني سيارة شرطة قديمة. واهن الجسد، محطم النفس جروحي تنزّ دماً، وتتعرج في لحمي دروباً زرقاء من آثار التعذيب الوحشي أدخلوني مقيّد اليدين. فراح السلماني مع جماعة من الحرس يسخرون مني. يضحكون ويقهقهون بفظاظة، وينكتون مثلما بهرهم منظري فتعلقت عيونهم المستغربة بي.‏

تتطلع ولا تكاد تصدق! تراني منفوش الشعر، مفتوح الصدر يرتفع سروالي قليلاً ليكشف عن موضع اللدغة وأثر جرح السكين والورم الذي بدأ يتفشى في كامل جسدي.. تراني.. تتعجب! كذلك بهرتني روعة المضيف، والأبهة الملفتة للنظر. فعلى الأرض مدت السجادة القاشانية الحمراء، الفاخرة التي لاكت الألسن عنها الكثير، فغدت مثار الإعجاب بألوانها وثمنها الخيالي.. والستائر المخملية الزاهية، المدلاة بتناسق. والثريات الثلاث المتلألئة في عز النهار! والمكتبة الخشبية، الفخمة التي غطت كامل الواجهة العريضة!‏

-كيف تتجاسر وتدخل بمنجلك؟!‏

زعق السلماني بوجهي كمن يريد استعادة الموقف، وأخذ زمام الأمور. وقبل أن أرد وزيادة في الصلف وكعادته بازدراء الآخرين أطلق سخريته، وهو يسد منخريه بسبابته وإبهامه:‏

-ما هذه الرائحة؟‏

تحكمت بأعصابي ريثما تحين فرصة الانقضاض وتحركت أمي خطوة لتعلن انزعاجها:‏

-إنها رائحة الصبير يا آغا. دهنّا جسده بالصبير الدبق.‏

-لا يا أمي.. لا.. إنها رائحته هو، رائحة إبطيه.. وما من رائحة أكره من رائحة السلماني...‏

فاجأته لهجتي الجسورة. فنظر مستنطقاً عينيّ عن مصدر قوتي. وتبادر إلى ذهني أنه أرجع سبب ذلك إلى عضة الثعبان، وأيقن أنها منحتني قوة لا تقهر، فصمت مذهولاً.. وتابعت:‏

-لو أمتلكت بندقية لحملتها بدل المنجل. ولجئت أصطاد الفئران في أحضانكم.. وهذه رائحة الصبير وضعتها لإثارتها وإخراجها من جحورها..‏

أثارهم كلامي، فغروا أفواههم دهشة، تطلعوا إليّ وإلى المنجل المرفوع عالياً.‏

-لم أرسلت بطلبي؟‏

أعدت سؤالي بغضب فرف جفناه، دار بؤبؤ عينيه هلعاً. ولكي يغطي على حرجه رمقني بنظرة عابرة، مستخفة، على سبيل التهكم. وبدل أن يجيب أشعل لنفسه سيجارة ليتلهىّ بها. عبّ منها نفساً عميقاً وسألني متنمّراً:‏

-ألم تذهب للعلاج! فلم عدت بهذه السرعة؟‏

استفزني. كدت أصيح عارضاً عملية النصب، لكني فضلت الهدوء:‏

-ما عدت بحاجة للعلاج.. شفيت..‏

-عجيب!!‏

-علام عجبك يا سلماني.. "إذا مرضت فهو يشفين".‏

-ماذا فعلت بسعدو؟‏

سؤاله المفاجئ طعنني في الأعماق نبش في داخلي فثار بركاني:‏

-وما علاقتك أنت؟ ألأنه شهد على شرائك لأرض أبي؟‏

اتسعت دهشته، وزاد عجب الرجال. قطب أحدهم حاجبيه:‏

-عجيب أمرك يا كاكاحمه!! هل جننت؟‏

زفر الآغا. وذكرني حمودة وهو يلج المضيف مع ابن سيده:‏

-أنت تتكلم مع الآغا السلماني!‏

-أعرف يا أعور.. يا شاهد الزور.. أتراني مثلك لا أميز الحمار من الإنسان؟‏

تلعثم الذليل، انعقد لسانه. وصاح حسان بانكسار:‏

-ماذا تريد؟ لم جئت؟‏

-لأتفرج على قباحتكم وأفضحكم.‏

-تأدب، احفظ لسانك.. ماذا جرى لك؟‏

-ابني في غاية الأدب. فالتزم الصمت أيها الغريب خير لك.‏

ردت أمي الرجل السمين، الجالس على يمين السلماني، فخر. خصني السلماني بنظرات ذئب لعب الفأر في عبه من كلامي.. فنفض سيجارته، بسبابته اليمنى، وقال مبدلاً لهجته، مرتدياً مسوح الواعظ.‏

-جاء، سعدو يشكو منك، ويدعي..‏

لم أدعه يكمل فمتى ما بدأ الثعلب بالنصح فقدت دجاجاتك..‏

-لا يصدق الثعلب إلاّ الثعلب.. ثم إنني لم أبدأ معه بعد بشأن الأرض أرتبك، أهتز بصورة ملحوظة. التقط إشارتي فأرتعشت يده وفضحت قسمات وجهه عن مدى اضطرابه. وقبل أن يتكلم أحد استطردت.‏

-أسألكم جميعاً-وعمري سيصل الثلاثين-أسمعتم أحداً يشكو مني؟ هل تجاسرت أو اعتديت على أحد منكم؟ لم أسمع أحداً كلاماً سيئاً، جارحاً، طوال عمري.‏

عشت بينكم بعيداً عن المشاكل، لم أمد يدي لمال أحد، أو أرفع بصري في وجه نسائكم أو بناتكم.. لم أخدش شرفكم.. فماذا حصلت؟ ضاع حقي...‏

-ابني يشرّفكم.. أشرف منكم جميعاً..‏

-الآن عدت لأطالب بحقوقي الضائعة.. كل حقوقي.. كان بيني وبين سعدو حساب قديم، صفيناه بهدوء.. حسابٌ اعترف به أمام الخالة زهرة وانتهينا منه. فلم تحشر أنفك وتتدخل؟‏

ازدرد ريقه. راح يغالب أمره ليتمالك نفسه ويخفي اضطرابه.‏

وبينما ران السكون وتوتر الجو. أخذ ينظر عبر الصمت المريب يحاول أن يستجلي حقيقة ما تراه حدقتاه.‏

-ألا تعرف أن الظلم لا يدوم ومرتعه وخيم يا سلماني؟‏

-كفى.. عمّ.. تتكلم؟‏

قاطعني بنبرة جافة، زعق ثانية مهدداً، ملوحاً بقبضته.‏

-من تحسب نفسك يا مجنون؟ لقد تماديت كثيراً.. تعديت حدودك..‏

لم أسمع بقية الكلام، فالغليان اندفع في أعماقي كالمراجل استفحل جنوني، واختمر الذل في داخلي حتى اشتعل ثورة لا تطفئها حراب الآغا ورجاله.‏

ومن جديد أدركت ضرورة الإسراع. والتصرف دون تردد.. كي لا أدعه هو يتمادى.. فسكوتي يعني أستسلامي، وضياع الفرصة التي تمنيتها، وانتظرتها طويلاً.. وها هو السلماني يتيحها لي.. يفرشها أمامي كبساط.‏

-اشهدوا يا رجال، إن منير سبني أمامكم دون وجه حق. ويبدو أنه يريد أخذ ثأر الأشهر الستة... لكني لن أمكنه. لم أكمل.. تعمدت مباغتتهم جميعاً، واستغلال عامل الوقت قفزت صوبه بخفة. وفي خلال ثوان كنت أقف خلفه وقبضتي اليمنى التي تتحكم بالمنجل على رقبته، واليسرى تمسك خصلة من شعره الأسود الفاحم.‏

حاول الحركة والإفلات فضربته بقدمي، رفسته فخمد كخروف العيد. وتقافز الرجال الثلاثة مبتعدين، كأرانب مذعورة. وتحرك حسان مصعوقاً وهدد. وشهر حمودة بندقية فحذرتهم:‏

-أبقوا في أمكنتكم ولا تخافوا.. لن يمسكم مني أذى.. وأنت أيها الأعور الذليل، أحذر من أن تخطئ الهدف فتصيب سيدك قبل أن أحز رقبته.‏

ران الصمت مرة أخرى. ثم راح السلماني الذي أخذته المفاجأة يرتعش ويتوسل. كأنه فطن أخيراً لمقدار تهوره، وأردك أنه أشعل النار في بيته، فخاف من الإنفجار المدمر، بعيد المدى، فقال مراوغاً:‏

-ماذا تريد يا بني؟ وأنت يا حمودة ألق البندقية.. ألق.. كلماته "المهذبة" أعطتني أنطباعاً بتخاذله أعلمتني بانهياره السريع غير المتوقع:‏

-بكم باعك أبي أرضه؟ بكم اشتريتها؟‏

-اتركه.. اترك أبي واخرج.. وإلاّ..‏

هدد حسان بإنفعال وهو يخطو باتجاهنا فنهره:‏

-ارجع يا حسان.. ارجع ولا تتهور.‏

توقف الابن ومن ثم تراجع. وعاد السلماني يرواغني ورقبته بيدي:‏

-أبوك! اللّه يرحمه.. لا أفهم!! قل ماذا تريد؟‏

"ما أسهل فرض الشروط وإصدار الأوامر وأنت في موقع القوة والاقتدار!" هكذا حدثت نفسي ظناً مني بالنجاح.. لكني لمحت إشارة خفية من حاجبي السلماني، مرسلة إلى ابنه فعرضت مقدار غبائي، لأنني تأخرت كثيراً..‏

تطلعت إلى حمودة المرتعب، فخمنت دون عناء إنهم سيغدرون بي.. برزت صورة العميد أمامي على حين غرة! حلت ساخرة هازئة مستخفة، فتوترت أعصابي وتحركت أصابعي رغماً عني فحركت المنجل ليحز لحم الرقبة الغليظة!‏

انبثق الدم كشلال وجأر "الآغا" ككبش ذبيح، وصرخت أمي محذرة، وصرخ حسان متوسلاً:‏

كدت أجن. استسهلت حركة المنجل وهممت بذبحه لولا العقل! بقايا العقل أشارت عليّ بأن أقتلع الفكرة من نفسي المعذبة، وأستفيد من الفرصة المتاحة.‏

خرجت حشرجة من حلق السلماني. وتحلب فمه لعاباً وكأنه شم رائحة حليب أمه في فمه تحول صراخه الغاضب إلى همهمة الرضا والاستسلام التام.‏

تسابق الرجال بالفرار ووقف الابن مذهولاً حائراً.‏

وأخذ حمودة يتحرك كمن في دبره دودة، هلعاً لا يكاد يثق بماتراه عينه. وذعرت أمي لرؤية الدم المنساب شهقت، توسلت ألا أتهور وفرت هي الأخرى مرعوبة.‏

-لا تظنني ساذجاً.. أخبرتك بأني جئت لأخذ حقي فعليك الامتثال والخنوع لأمري، بدل الغمز لأبنك.. الحل الأمثل أمامك، الذي ينجيك من الذبح هو إعادة الحق إلى نصابه.‏

كلمته بحدة فلم ينبس بحرف، أخذ يبكي كرضيع تاه ثغره عن ثدي أمه.‏

-بكم اشتريت الأرض من أبي يا سلماني؟‏

-بألفين..‏

-هل سلمتها له حقاً؟ أم تقاسمتها مع شهود الزور؟‏

-.....‏

-من زور بصماته؟‏

سألته وكفي يتراقص أمام عينيه ملطخاً بدمه فلم يجب.‏

-ما عاد الإنكار مفيداً. أطلعني الجمولي على كل شيء، أعترف بتزوير ورقة البيع، وشهادة الأعور وسعدو الباطلة.‏

-الجمولي!!‏

-كافة الأوراق والمستمسكات أصبحت في حوزتي. سلمتها بيد محام شريف. نصحني بإقناعك أولاً قبل إثارة الموضوع ورفع الدعوى .‏

-من هو؟!‏

-سأفضحك وحق الله.. إذا لعبت بذيلك..‏

-ماذا تريد يا بني؟ أنا طوع أمرك..‏

أبدى مرونة! تنازل عن جبروته ومسح دموعه.‏

-لا أريد سوى حقي.. تعيد لي الأرض فوراً.‏

استمر ببكائه. فلوحت بكفي الملطخ بالدم.‏

-إضافة إلى ما يترتب عليك جراء استغلالها طوال هذه السنين.. لو حسبنا كل سنة بألف مثلاً..‏

-أنت تعرف أنها أرض متروكة وأني..‏

-أتعتقد أنني أصدقك؟. وأنت الذي رأيت "هبة المدفونة" تفر من الحديقة بحقيبتها!‏

صعق. رفع رأسه ونظر إليّ بعينيه الباكيتين وأقسم:‏

-بشر في.. سأعيد الأرض لكم.. وسأدفع كل ما تطلبه..‏

-لا أريد ابترزازك.. لقد حرمتنا من أرضنا طوال هذه السنين.‏

-قل كم تريد؟‏

-أتراني أستحق ألفي دينار..‏

-تستحق.. سأدفعها لك الآن.. الآن..‏

-إضافة إلى هبة، لا تظنني غافلاً عن دار أربيل والعزيزة "كهرمانة" فقد انضباطه ووقاره تماماً. ارتعشت شفته العليا، وتراقصت شعيرات شاربه. بينما جمد الابن والخادم في مكانيهما،‏

-يا كاكاحمه.. قل ماذا تريد بعد؟‏

-لا شيء.. سوى الأرض الشرقية.. أرض أبي، وما عليها..‏

-خذها مجاناً.. وأغلق فمك..‏

-لا أريد هذه المكرمة.. سأشتري التجهيزات بفلوسي لا بسكوتي.‏

-بعتها لك بألف دينار.‏

-وأنا اشتريتها بخمسمائة دينار.‏

-مبروك عليك يا كاكاحمه.. مبروك.. إنها لك بشرفي.. همس بصوت خائف. فانبرى حسان معترضاً.‏

-لا يا أبي.. لا..‏

-اسكت أنت.. اسكت.‏

صاح بابنه مما شجعني لمخاطبة حسان باحتقار:‏

-اتعترض بعد كل ما سمعته! أمامك السيد الوالد وشاهد الزور الأعور يمكنك التأكد منهما.. هيا أسألهما.. هيّا. سكت فازددت حماساً بينما صمت الأب وخادمه: أخبره بالحقيقة يا سلماني.. وأنت يا حمودة، أفي كلامي مبالغة أو افتراء؟ ألم تشهد زوراً مع سعدو في جريمة سيدك بالاشتراك مع الجمولي واصلاً الصمت، فاستطردت آمراً حسان:‏

-اذهب إلى بيت المختار. ليأت بسرعة ومعه محمد، كاتب البلدية. أبدى امتناعاً فحثه الأب المجروح، والدم يسيل من رقبته على قميصه.‏

-امض يا بني.. امض.. أنت يا حمودة أسرع فامض.. هيا امض.. بسرعة أمر خادمه حين لحظ تردد ابنه، وتدخلت بدوري مهدداً:‏

-قبل خروجك، ألق بندقيتك جانباً.. وإياك أن تتهور. رقبة سيدك ستدوسها قدمي قبل أن تقكر بشيء قذر.. وثق أنني سأفقأ عينك الثانية.. ثق، قبل تسليمك للشرطة بتهمة التزوير..‏

-نفذ ما يقوله لك كاكاحمه.. نفذ يا حموده..‏

زمجر السلماني ويده تتحسس رقبته. فانطلق الأعور راكضاً لا يلوي على شيء.‏

-أحسنت يا آغا.. أحسنت.. بدأت تحكم عقلك..‏

قلت له قبل أن يدخل سلطان متوسلاً:‏

-دخليلك يا كاكاحمه.. خذلي حقي من الآغا.. خذ لي حقي.. امتعضت، بصقت على الأرض. ورددت كلماته التي قالها لي ذات يوم:‏

-امشي يا سلطان "حقك تأخذه بنفسك.. لست مسؤولاً عنك ... امش يا جبان..."‏

قبل أن يمتهن السياقة، كان سلطان تاجر الخضراوات والفواكه الوحيد، في القرية، والمتعهد الرئيسي لنقل البضائع بيننا وبين أربيل والقرى المجاورة. ولولا الطمع لغدا سيد القرية دون منازع دفعه الشيطان ليشارك السلماني بحجة تصدير محاصيلنا إلى الموصل وبغداد. لم تدم الشراكة سوى أشهر غدر به السلماني بلؤم.. سلخ جلده وطرده. وأعطى الوكالة لسعدو قبل أن ينفرد بها حسان ابنه..‏

ارتبك سلطان أحسّ بالخذلان وتذكر ذلك اليوم الذي التجأت إليه أطلب مساعدته ليكلم شريكه ويرد حقوقنا فنهرني.. وطردني..‏

أبعد السلماني يدي عن رقبته. ومضى بمراوغته.‏

-أحسنت يا كاكاحمه.... بارك الله بك... كل شيء حلال عليك. أضاف وهو يمسح الدم بذيل قميصه:‏

-أنت رجل..... أثبت رجولتك...‏

-المبلغ الباقي متى ستدفعه؟ ألف وخمسمائة ديناراً‏

-غداً... والله العظيم.. نقودي في البنك...‏

-أعرف.. سلمك الجمولي خمسة آلاف.. لذا سأمهلك حتى عصر الغد.. واحذر أنت والجمولي.. قل له ستسلم الأوراق للقضاء عند أول بادرة سوء منه.. وليبتعد عني ولا يريني وجهه ما دام حياً. قاطعني وهو يلقي بعنقه المدمى إلى الخلف. مريحاً رأسه على الجدار. وهرع حسان يخفف عنه، ويساعده.‏

-أعطيتك كلمة.. ولن أتراجع عنها..‏

-يا كاكاحمه..‏

أراد سلطان أن يتملقني فنهرته دون أن أبرح مكاني:‏

-الأيام تعيد نفسها يا أبا محمد! قبل قليل قلت للسلماني: "الظلم مرتعه وخيم.." وأقول لك الآن: أن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.. فأخرس يا سلطان.. وأخرج.‏

رفض سلطان وتحرك محتجاً. فقفز حسان صوبه. يروم إفراغ حقده، ضربه بدلاً عني. فمنعه والده:‏

-قف يا حسان.. اهدأ واعقل.. اترك سلطان ليخرج.. استجاب الابن وتوقف. توقعت مثل سلطان أن يبادر السلماني إلى ما يفرحه لكنه أمر حسان:‏

-اذهب إلى البيت. اجلب لي من غرفتي، قنينة كولونيا. لأعقم الجرح.. قد يكون المنجل ملوثاً.. سامحك الله ياكاكاحمه.. سامحك الله..‏

استدار سلطان ليغادر المضيف متلوعاً من الفشل فناداه السلماني:‏

-مر عليّ غداً يا سلطان.. مر عليّ غداً.. غداً..‏

-حاضر.. سيدي الآغا.. حاضر..‏

هتف سلطان بتملق.. وحلق طائراً.. وتبعه حسان.‏

-لماذا فعلت بي هذا يا كاكاحمه؟ لماذا؟ أهنتني أمام أصحابي.. أما كان التفاهم أفضل!‏

الخوف والجبن حولا "الآغا الكبير" من وحش كاسر إلى قطّ مسالم فراح يسترضيني، ويهدئ من ثورتي. كأنه قرأ ما في أعماقي وأدرك جديتي..‏

أنت البادئ، والبادئ أظلم.‏

عاد حسان بعد دقيقة بقنينة الكولونيا، ومنشفة نظيفة.‏

تناولهما الأب وشرع يمسح الجرح النازف، ويرش المطهر.‏

وبعد دقائق جاء عبد اللّه المختار، يرافقه محمد حاملاً حقيبته الجلدية.‏

فزعا لرؤية الجرح، الدماء وزاد فزعاً لرؤية منجلي. ووضعية "الآغا".. المسالم!‏

-ماذا جرى يا بني؟ ماذا جرى؟‏

-سألني المختار فأجاب السلماني بدلاً عني:‏

-لا شيء يا حضرة المختار، لا شيء.. حصل سوء تفاهم، وانتهى بحمد اللّه..‏

لم أهتم لحديثهما.. تذكرت أمي وافتخار فسألته:‏

-يا مختار، ألديك مانع من زواجي هذا الأسبوع، أي اعتراض؟‏

بوغت حقاً، بدا الأمر محيراً بالنسبة إليه. فلا مزاح أو تهاون مع الموت، لكن "الصكوك" التي أحرقها فخلصت رقبته من أسر الجمولي و" رقبة السلماني المدماة" دفعتاه ليفعل المستحيل في سبيل إرضائي..‏

-لا.. لا يا بني.. لا.. ولم المانع!‏

-قيل لي: أنك ترفض.. تمانع بسبب المرحومة..‏

-كذب.. الموتى لن يعودوا.. مبروك لك يا بني.. مبروك عليك مقدماً.. وسأحضر بنفسي..‏

-وسأحضر.. أنا أيضاً..‏

أعلن السلماني..‏

لم أكن مستعداً لسماع المزيد. وبدا محمد على عجلة من أمره. لذا استعجلتهم فجرى البيع والشراء بيني وبين منير السلماني بصورة قانونية، وبرضا الطرفين. وشهد المختار وحسان، يلفهما الذعر والرهبة، ويعتريهما العجب والحيرة!‏

وعندما انتهى كل شيء. أحسست بصداع خفيف يطرق قحف جمجمتي. فتركت المضيف وخرجت متجهاً إلى البيت.‏

وجدت أمي في سعادة. وهي تلاعب الدنانير المنثورة، على امتداد أرض الصالة!‏

لم تنتبه لدخولي. سعلت لأشعرها بمجبئي.‏

التفتت فرأتني واقفاً قربها. خجلت وراحت أصابعها تلمّ الأوراق النقدية.‏

-أخبرني سلطان بأن الآغا بخير فطمأنني..‏

قالت مسوغة عدم عودتها إلى المضيف واسترسلت:‏

-اليوم فقط احترمته.. افتدى روحه بالمال من شر مستطير.. كان من الممكن أن يحرق الأخضر واليابس.‏

لم أعلق.. فسألتني بمكر:‏

-أكنت جاداً في ذبحه.؟‏

-لا أدري.. ربما..‏

أجبت، ودخلت غرفتي. فلحقتني.‏

تمددت على سريري. أغمضت عيني فسمعتها تهمس بخوف:‏

-جسمك متورم..!‏

قاطعتها بإشارة من يدي.‏

-دعني أجلب لك الحكيمة..‏

-لا داعي..‏

-إنها لدغة ثعبان!‏

-دعني الآن لأغفو قليلاً، إنها ليست أول لدغة!‏

-ماذا تقصد؟ ربما يتسمم جسمك كله..‏

-لا تخافي.. جسمي متسمم قبل الثعبان.. ولكني لن أموت الآن.. لم يحن وقتي بعد.. لم يحن..‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:25 pm

-3 -‏

حين أفقت بعد ساعة وجدت أمي إلى جواري، جالسة تتملكها الرهبة. وعلى بعد خطوات كان عمي حسن يتبادل الحديث مع موسى ويحيى وبشيرة ما إن رفعت رأسي حتى أمطروني بأسئلتهم. وانهمكوا يتحسسون حرارتي ويجسون نبضي ويعرضون مساعدتهم..‏

-الآغا يطلبك.. جاء حمودة الذليل لآخذك.‏

قالت لي أمي ويدها تساعدني على ارتداء ملابسي فملكني الفرح وهتفت في داخلي "آن الآوان يا حضرة الآغا.. آن الآوان".‏

-متى عاد.. السلماني..؟‏

-قبل ساعة..‏

-يا اللّه!! كم أشتاق لرؤيته؟‏

-للسلماني؟!‏

-نعم يا أمي.. للسلماني دون غيره..‏

-منعت حمودة من إيقاظك..‏

أوضح عمي. ضحك يحيى وأخبرني:‏

-رأى جسدك المتورم ففزع!‏

-ماذا يريد السلماني منك؟‏

سأل عمي مبدياً دهشته. ولم أجد جواباً مقنعاً غير:‏

-اختصر لي الطريق.. عجل في نهايته.‏

لفظة الآغا وطلبه، أوقدا تحتي نار الحقد الكامن. وأججا التحدي والعنفوان في صدري. لا أدري ما الذي جرى له فيتجرأ الآن ويطلبني! فمنذ أن أمتلك الخوف قلبه بسببي، دأب على تحاشي الاصطدام بي.. هو يعرف كراهيتي له.. ففي أول لحظة وعيت بها على السلماني كرهته، كراهيتي للشيطان! ثم تحولت الكراهية إلى حقد فظيع حقدت عليه. وأضمرت له العداوة والبغض.. وحين اصطدمت معه استحكم النفور بيننا إلى درجة عالية. صحيح أن قسوته جففت الدمع في عيون الكثيرين منا، لكن براكين الغيظ ظلت تمور وتغلي.. وخلال السنين الماضية تراكم القهر. فوق قهر.. وآن الآوان لوضع الأمور في نصابها. ختم الحكاية واسدال الستار، فهو لم يتعظ كما يبدو من اعترافاتي. ولم يكتف بالأشهر الستة.‏

-هل جلبت المنجل؟‏

بدت أمي مستلبة، مدهوشة تجاه السلماني. بالرغم من كراهيتها الشديدة له.‏

-هذا هو، تحت قدميك.‏

أشارت بكف ترتعش. فأنحنيت لألتقاطه وإذا ببشيرة تعلن مخاوفها:‏

-ما الذي ستفعله؟‏

-سأحش به الرؤوس الزائدة.. العفنة..‏

-لا تتهور يا كاكاحمه.. كن عاقلاً.‏

نصحني يحيى وانهالت النصائح والإرشادات. لم أستمع لأحد.. مضيت ومكبر الصوت يصدح بآذان الظهر.‏

كان المنجل قديماً لكن أسنانه البارزة الحادة، شجعتني على المضي قدّماً لأجني ثمار حصاد يائس.. لم أخف، فالخوف بداية الهزيمة.. وكاكاحمه.. أنا.. لا يمكن أن أهزم...‏

في الطريق ألتقيت بمحمد بن سلطان السائق أوقفني وأخذني بالأحضان.‏

-كيف حالك يا كاكاحمه؟ الحمد للّه على سلامتك.‏

-هل ولدت زوجتك؟‏

سألته أمي فأحرجته. ولم ير بداً من الرد:‏

-أكلت شهرها منذ يومين. تعسّرت ولادتها.. وأنا في حيرة.‏

-لا تهتم.. اذهب إلى الحاج صالح، وخذ منه صوف بعير. ضحك من وصفة أمي وأستفهم منها:‏

-صوف بعير!! ماذا أفعل به؟‏

-احرقه أمامها "ستلد حال أستنشاقها بخاره الحار. اذهب فوراً.. لتريحها..‏

-جئت لتوي يا خالة.. أوصيت أمي بنقلها إلى المستشفى إذا حصل طارئ.. جئت على عجل مع الآغا السلماني..‏

-إذن لم تترك أربيل وتجئ إلى هنا عبثاً! لا بدّ أن أمراً مهما أجبرك على القدوم؟‏

حدثته بلهجة الواثق فأجابني:‏

-هادي المخرف أرسل بطلبي... ليبيع أرضاً أو داراً..‏

-أما زلت موظفاً في البلدية..؟‏

-قسم عقارات الطابو..‏

-أعرف.. أعرف.. بعثك الله في الوقت المناسب.. قل لي.. أمعك أوراق بيع وشراء.. زائدة.‏

-لا.. ماذا تقصد؟‏

-إذن أجّل طلب المخرف إلى يوم آخر.‏

-لا أفهم.‏

-أنا في حاجة للأوراق.. أريدها اليوم بالذات.. اذهب إلى بيت المختار وانتظرني هناك.. سأرسل بطلبك بعد ساعة على الأكثر. فأنت متعلم وشورك في رأسك. وتعرف أن لا شيء في قريتنا اسمه الحكومة. لذا سينوب عنها هذا السيد تركته مذهولاً لرؤية المنجل المرفوع عالياً.‏

قصدت دار السلماني والنيران تشتعل في صدري، تضطرم كنيران يوم القيادمة. وصلت الباب بعد قليل، ولحقتني أمي. وقفت بجانبي ترتجف، تبسمل وتستعيذ من شر الشيطان الرجيم. سمعتها تقرأ صغار السور وتهتف بشفتيها:‏

-يا رب، يا من إذا نشدوك وجدوك.‏

طرقت المدقة النحاسية وانتظرت ثم عاودت الطرق بالمنجل، بشدة. مما أزعج حسان، فخرج غاضباً.. وزاد غضبه حين رأني.‏

كان حسان الابن الوحيد للسلماني، شبيهاً بأبيه من حيث التعالي والغطرسة واللؤم وهضم حقوق الآخرين. ولولا "إلهام" التي شاءت الانتقام مني، لما كسر أنفه وأنف أبيه، ومرغا بالتراب. لولاها لبقيا ينهشان لحومنا، ويتغذيان على دمائنا... منذ تلك الحادثة، التي زعزعت هيبة "الآغا" وقفت في عضده، وهدمت صروح ما بناه من ظلم وجور، وكشفت للناس حقيقته، وحسان لا يجرؤ على القيام بما تعود السلماني الطاغي "إذ لزم الوكالة التي استلمها بعد إتهام سعدو بالسرقة وطرده، معطياً لحمودة مسؤولية رعاية البقرات العشر وتربيتهن، إلاّ أنه لم يترك ثوره المميز "البكر"‏

-ألم تر الجرس الكهربائي؟‏

زعق بوجهي موبخاً. وعلى غير ما عرف عني "رضوخ وطاعة" لطمته على كتفه بقوة، فترنح كسكير. وكاد يفقد توازنه. أزحته جانباً وشهرت سلاحي الوحيد. منجلي القديم والحاد في وجهه. وفي وجه الخادم حمودة الأعور. وهو يصادفني في الممر ويعترضني! بهت لحظة وجمد شعرت وأنا أتابع سيري، بنظرات عينه الصحيحة تنغرس في ظهري كالسهام!‏

منذ حادثة "نصار وهبة" فقد دار الآغا منعته، كما فقد سيده نفوذه الواسع وإن ظلّ يحلم بأوهام العودة إلى أيام مجده الضائع على يدي، وسطوته المسلوبة متناسياً أن ما فات قد مات.‏

اقتحمت المضيف. دخلت كالصاعقة صفقت الباب بحدة أفزعت السلماني وضيوفه. فهبّ من مقعده وتبعتني أمي مستلبة مدهوشة.‏

قرأت مقدار ذعره وارتباكه لاحظت بياض شاربيه ومكر الذئاب المنبعث من عينيه. وفي وجهه لاحت معالم الحقد والضغينة كان قابعاً على فراش وثير. وعلى جانبيه وسائد عريضة ملونة، مختلفة الأحجام. وجلس أمامه ثلاثة رجال كبار، كما يجلس الخدم! وأحدهم غريب وسمين!‏

ذهلوا لرؤيتي ولجسارتي، وكأن الطاعون اقتحم ديارهم فألتزموا الصمت وانتظروا كلامي.‏

إنها المرة الثانية التي أدخل فيها، في الأولى كنت معتقلاً ولم يتجاوز عمري الخامسة عشرة، وكان هو عميلاً للسلطة آنذاك اثنتا عشرة سنة مرت. وبات واضحاً أن محاولاته العقيمة لتشويه الحقائق لم تؤد إلى توفير ما طمح إليه من استقرار وغنى -بعد فشله الذريع في احتوائنا-بل أدت إلى نفور وكراهية متبادلة بينه وبيننا جميعاً. مما ولد التوتر والاضطراب في قلوب كل رجال القرية. وزاد الأمر سخونة عندما تبدلت الأحوال، وانعكس الوضع وذابت السطوة. إثر انطمار وزارة ودفن أخرى، وبقي هو في أتون الصراع!‏

لم أشأ الوقوع في شرك الحرج وشباك الارتباك ولن أمكنه من خداعي واحتواء الموقف.. لذا وجب التصرف بسرعة فانتزع حجراً من وسط الجدار الآيل إلى السقوط بين لحظة وأخرى كي أفلح. ألم يقل لي مجيد "باغت عدوك تنل مرامك" -ماذا تريد يا سلماني؟‏

صحت فأرتبك وعاد لموقعه. نظر إليّ بعجب. رفع حاجبيه وكتم غيظه. وذهل الرجال لسكوته، فتطوّع السمين لردعي:‏

-سلم أولاً أيها الشاب!‏

لم أنس بعد مساء السبت الأول من تموز 1963 حملتني سيارة شرطة قديمة. واهن الجسد، محطم النفس جروحي تنزّ دماً، وتتعرج في لحمي دروباً زرقاء من آثار التعذيب الوحشي أدخلوني مقيّد اليدين. فراح السلماني مع جماعة من الحرس يسخرون مني. يضحكون ويقهقهون بفظاظة، وينكتون مثلما بهرهم منظري فتعلقت عيونهم المستغربة بي.‏

تتطلع ولا تكاد تصدق! تراني منفوش الشعر، مفتوح الصدر يرتفع سروالي قليلاً ليكشف عن موضع اللدغة وأثر جرح السكين والورم الذي بدأ يتفشى في كامل جسدي.. تراني.. تتعجب! كذلك بهرتني روعة المضيف، والأبهة الملفتة للنظر. فعلى الأرض مدت السجادة القاشانية الحمراء، الفاخرة التي لاكت الألسن عنها الكثير، فغدت مثار الإعجاب بألوانها وثمنها الخيالي.. والستائر المخملية الزاهية، المدلاة بتناسق. والثريات الثلاث المتلألئة في عز النهار! والمكتبة الخشبية، الفخمة التي غطت كامل الواجهة العريضة!‏

-كيف تتجاسر وتدخل بمنجلك؟!‏

زعق السلماني بوجهي كمن يريد استعادة الموقف، وأخذ زمام الأمور. وقبل أن أرد وزيادة في الصلف وكعادته بازدراء الآخرين أطلق سخريته، وهو يسد منخريه بسبابته وإبهامه:‏

-ما هذه الرائحة؟‏

تحكمت بأعصابي ريثما تحين فرصة الانقضاض وتحركت أمي خطوة لتعلن انزعاجها:‏

-إنها رائحة الصبير يا آغا. دهنّا جسده بالصبير الدبق.‏

-لا يا أمي.. لا.. إنها رائحته هو، رائحة إبطيه.. وما من رائحة أكره من رائحة السلماني...‏

فاجأته لهجتي الجسورة. فنظر مستنطقاً عينيّ عن مصدر قوتي. وتبادر إلى ذهني أنه أرجع سبب ذلك إلى عضة الثعبان، وأيقن أنها منحتني قوة لا تقهر، فصمت مذهولاً.. وتابعت:‏

-لو أمتلكت بندقية لحملتها بدل المنجل. ولجئت أصطاد الفئران في أحضانكم.. وهذه رائحة الصبير وضعتها لإثارتها وإخراجها من جحورها..‏

أثارهم كلامي، فغروا أفواههم دهشة، تطلعوا إليّ وإلى المنجل المرفوع عالياً.‏

-لم أرسلت بطلبي؟‏

أعدت سؤالي بغضب فرف جفناه، دار بؤبؤ عينيه هلعاً. ولكي يغطي على حرجه رمقني بنظرة عابرة، مستخفة، على سبيل التهكم. وبدل أن يجيب أشعل لنفسه سيجارة ليتلهىّ بها. عبّ منها نفساً عميقاً وسألني متنمّراً:‏

-ألم تذهب للعلاج! فلم عدت بهذه السرعة؟‏

استفزني. كدت أصيح عارضاً عملية النصب، لكني فضلت الهدوء:‏

-ما عدت بحاجة للعلاج.. شفيت..‏

-عجيب!!‏

-علام عجبك يا سلماني.. "إذا مرضت فهو يشفين".‏

-ماذا فعلت بسعدو؟‏

سؤاله المفاجئ طعنني في الأعماق نبش في داخلي فثار بركاني:‏

-وما علاقتك أنت؟ ألأنه شهد على شرائك لأرض أبي؟‏

اتسعت دهشته، وزاد عجب الرجال. قطب أحدهم حاجبيه:‏

-عجيب أمرك يا كاكاحمه!! هل جننت؟‏

زفر الآغا. وذكرني حمودة وهو يلج المضيف مع ابن سيده:‏

-أنت تتكلم مع الآغا السلماني!‏

-أعرف يا أعور.. يا شاهد الزور.. أتراني مثلك لا أميز الحمار من الإنسان؟‏

تلعثم الذليل، انعقد لسانه. وصاح حسان بانكسار:‏

-ماذا تريد؟ لم جئت؟‏

-لأتفرج على قباحتكم وأفضحكم.‏

-تأدب، احفظ لسانك.. ماذا جرى لك؟‏

-ابني في غاية الأدب. فالتزم الصمت أيها الغريب خير لك.‏

ردت أمي الرجل السمين، الجالس على يمين السلماني، فخر. خصني السلماني بنظرات ذئب لعب الفأر في عبه من كلامي.. فنفض سيجارته، بسبابته اليمنى، وقال مبدلاً لهجته، مرتدياً مسوح الواعظ.‏

-جاء، سعدو يشكو منك، ويدعي..‏

لم أدعه يكمل فمتى ما بدأ الثعلب بالنصح فقدت دجاجاتك..‏

-لا يصدق الثعلب إلاّ الثعلب.. ثم إنني لم أبدأ معه بعد بشأن الأرض أرتبك، أهتز بصورة ملحوظة. التقط إشارتي فأرتعشت يده وفضحت قسمات وجهه عن مدى اضطرابه. وقبل أن يتكلم أحد استطردت.‏

-أسألكم جميعاً-وعمري سيصل الثلاثين-أسمعتم أحداً يشكو مني؟ هل تجاسرت أو اعتديت على أحد منكم؟ لم أسمع أحداً كلاماً سيئاً، جارحاً، طوال عمري.‏

عشت بينكم بعيداً عن المشاكل، لم أمد يدي لمال أحد، أو أرفع بصري في وجه نسائكم أو بناتكم.. لم أخدش شرفكم.. فماذا حصلت؟ ضاع حقي...‏

-ابني يشرّفكم.. أشرف منكم جميعاً..‏

-الآن عدت لأطالب بحقوقي الضائعة.. كل حقوقي.. كان بيني وبين سعدو حساب قديم، صفيناه بهدوء.. حسابٌ اعترف به أمام الخالة زهرة وانتهينا منه. فلم تحشر أنفك وتتدخل؟‏

ازدرد ريقه. راح يغالب أمره ليتمالك نفسه ويخفي اضطرابه.‏

وبينما ران السكون وتوتر الجو. أخذ ينظر عبر الصمت المريب يحاول أن يستجلي حقيقة ما تراه حدقتاه.‏

-ألا تعرف أن الظلم لا يدوم ومرتعه وخيم يا سلماني؟‏

-كفى.. عمّ.. تتكلم؟‏

قاطعني بنبرة جافة، زعق ثانية مهدداً، ملوحاً بقبضته.‏

-من تحسب نفسك يا مجنون؟ لقد تماديت كثيراً.. تعديت حدودك..‏

لم أسمع بقية الكلام، فالغليان اندفع في أعماقي كالمراجل استفحل جنوني، واختمر الذل في داخلي حتى اشتعل ثورة لا تطفئها حراب الآغا ورجاله.‏

ومن جديد أدركت ضرورة الإسراع. والتصرف دون تردد.. كي لا أدعه هو يتمادى.. فسكوتي يعني أستسلامي، وضياع الفرصة التي تمنيتها، وانتظرتها طويلاً.. وها هو السلماني يتيحها لي.. يفرشها أمامي كبساط.‏

-اشهدوا يا رجال، إن منير سبني أمامكم دون وجه حق. ويبدو أنه يريد أخذ ثأر الأشهر الستة... لكني لن أمكنه. لم أكمل.. تعمدت مباغتتهم جميعاً، واستغلال عامل الوقت قفزت صوبه بخفة. وفي خلال ثوان كنت أقف خلفه وقبضتي اليمنى التي تتحكم بالمنجل على رقبته، واليسرى تمسك خصلة من شعره الأسود الفاحم.‏

حاول الحركة والإفلات فضربته بقدمي، رفسته فخمد كخروف العيد. وتقافز الرجال الثلاثة مبتعدين، كأرانب مذعورة. وتحرك حسان مصعوقاً وهدد. وشهر حمودة بندقية فحذرتهم:‏

-أبقوا في أمكنتكم ولا تخافوا.. لن يمسكم مني أذى.. وأنت أيها الأعور الذليل، أحذر من أن تخطئ الهدف فتصيب سيدك قبل أن أحز رقبته.‏

ران الصمت مرة أخرى. ثم راح السلماني الذي أخذته المفاجأة يرتعش ويتوسل. كأنه فطن أخيراً لمقدار تهوره، وأردك أنه أشعل النار في بيته، فخاف من الإنفجار المدمر، بعيد المدى، فقال مراوغاً:‏

-ماذا تريد يا بني؟ وأنت يا حمودة ألق البندقية.. ألق.. كلماته "المهذبة" أعطتني أنطباعاً بتخاذله أعلمتني بانهياره السريع غير المتوقع:‏

-بكم باعك أبي أرضه؟ بكم اشتريتها؟‏

-اتركه.. اترك أبي واخرج.. وإلاّ..‏

هدد حسان بإنفعال وهو يخطو باتجاهنا فنهره:‏

-ارجع يا حسان.. ارجع ولا تتهور.‏

توقف الابن ومن ثم تراجع. وعاد السلماني يرواغني ورقبته بيدي:‏

-أبوك! اللّه يرحمه.. لا أفهم!! قل ماذا تريد؟‏

"ما أسهل فرض الشروط وإصدار الأوامر وأنت في موقع القوة والاقتدار!" هكذا حدثت نفسي ظناً مني بالنجاح.. لكني لمحت إشارة خفية من حاجبي السلماني، مرسلة إلى ابنه فعرضت مقدار غبائي، لأنني تأخرت كثيراً..‏

تطلعت إلى حمودة المرتعب، فخمنت دون عناء إنهم سيغدرون بي.. برزت صورة العميد أمامي على حين غرة! حلت ساخرة هازئة مستخفة، فتوترت أعصابي وتحركت أصابعي رغماً عني فحركت المنجل ليحز لحم الرقبة الغليظة!‏

انبثق الدم كشلال وجأر "الآغا" ككبش ذبيح، وصرخت أمي محذرة، وصرخ حسان متوسلاً:‏

كدت أجن. استسهلت حركة المنجل وهممت بذبحه لولا العقل! بقايا العقل أشارت عليّ بأن أقتلع الفكرة من نفسي المعذبة، وأستفيد من الفرصة المتاحة.‏

خرجت حشرجة من حلق السلماني. وتحلب فمه لعاباً وكأنه شم رائحة حليب أمه في فمه تحول صراخه الغاضب إلى همهمة الرضا والاستسلام التام.‏

تسابق الرجال بالفرار ووقف الابن مذهولاً حائراً.‏

وأخذ حمودة يتحرك كمن في دبره دودة، هلعاً لا يكاد يثق بماتراه عينه. وذعرت أمي لرؤية الدم المنساب شهقت، توسلت ألا أتهور وفرت هي الأخرى مرعوبة.‏

-لا تظنني ساذجاً.. أخبرتك بأني جئت لأخذ حقي فعليك الامتثال والخنوع لأمري، بدل الغمز لأبنك.. الحل الأمثل أمامك، الذي ينجيك من الذبح هو إعادة الحق إلى نصابه.‏

كلمته بحدة فلم ينبس بحرف، أخذ يبكي كرضيع تاه ثغره عن ثدي أمه.‏

-بكم اشتريت الأرض من أبي يا سلماني؟‏

-بألفين..‏

-هل سلمتها له حقاً؟ أم تقاسمتها مع شهود الزور؟‏

-.....‏

-من زور بصماته؟‏

سألته وكفي يتراقص أمام عينيه ملطخاً بدمه فلم يجب.‏

-ما عاد الإنكار مفيداً. أطلعني الجمولي على كل شيء، أعترف بتزوير ورقة البيع، وشهادة الأعور وسعدو الباطلة.‏

-الجمولي!!‏

-كافة الأوراق والمستمسكات أصبحت في حوزتي. سلمتها بيد محام شريف. نصحني بإقناعك أولاً قبل إثارة الموضوع ورفع الدعوى .‏

-من هو؟!‏

-سأفضحك وحق الله.. إذا لعبت بذيلك..‏

-ماذا تريد يا بني؟ أنا طوع أمرك..‏

أبدى مرونة! تنازل عن جبروته ومسح دموعه.‏

-لا أريد سوى حقي.. تعيد لي الأرض فوراً.‏

استمر ببكائه. فلوحت بكفي الملطخ بالدم.‏

-إضافة إلى ما يترتب عليك جراء استغلالها طوال هذه السنين.. لو حسبنا كل سنة بألف مثلاً..‏

-أنت تعرف أنها أرض متروكة وأني..‏

-أتعتقد أنني أصدقك؟. وأنت الذي رأيت "هبة المدفونة" تفر من الحديقة بحقيبتها!‏

صعق. رفع رأسه ونظر إليّ بعينيه الباكيتين وأقسم:‏

-بشر في.. سأعيد الأرض لكم.. وسأدفع كل ما تطلبه..‏

-لا أريد ابترزازك.. لقد حرمتنا من أرضنا طوال هذه السنين.‏

-قل كم تريد؟‏

-أتراني أستحق ألفي دينار..‏

-تستحق.. سأدفعها لك الآن.. الآن..‏

-إضافة إلى هبة، لا تظنني غافلاً عن دار أربيل والعزيزة "كهرمانة" فقد انضباطه ووقاره تماماً. ارتعشت شفته العليا، وتراقصت شعيرات شاربه. بينما جمد الابن والخادم في مكانيهما،‏

-يا كاكاحمه.. قل ماذا تريد بعد؟‏

-لا شيء.. سوى الأرض الشرقية.. أرض أبي، وما عليها..‏

-خذها مجاناً.. وأغلق فمك..‏

-لا أريد هذه المكرمة.. سأشتري التجهيزات بفلوسي لا بسكوتي.‏

-بعتها لك بألف دينار.‏

-وأنا اشتريتها بخمسمائة دينار.‏

-مبروك عليك يا كاكاحمه.. مبروك.. إنها لك بشرفي.. همس بصوت خائف. فانبرى حسان معترضاً.‏

-لا يا أبي.. لا..‏

-اسكت أنت.. اسكت.‏

صاح بابنه مما شجعني لمخاطبة حسان باحتقار:‏

-اتعترض بعد كل ما سمعته! أمامك السيد الوالد وشاهد الزور الأعور يمكنك التأكد منهما.. هيا أسألهما.. هيّا. سكت فازددت حماساً بينما صمت الأب وخادمه: أخبره بالحقيقة يا سلماني.. وأنت يا حمودة، أفي كلامي مبالغة أو افتراء؟ ألم تشهد زوراً مع سعدو في جريمة سيدك بالاشتراك مع الجمولي واصلاً الصمت، فاستطردت آمراً حسان:‏

-اذهب إلى بيت المختار. ليأت بسرعة ومعه محمد، كاتب البلدية. أبدى امتناعاً فحثه الأب المجروح، والدم يسيل من رقبته على قميصه.‏

-امض يا بني.. امض.. أنت يا حمودة أسرع فامض.. هيا امض.. بسرعة أمر خادمه حين لحظ تردد ابنه، وتدخلت بدوري مهدداً:‏

-قبل خروجك، ألق بندقيتك جانباً.. وإياك أن تتهور. رقبة سيدك ستدوسها قدمي قبل أن تقكر بشيء قذر.. وثق أنني سأفقأ عينك الثانية.. ثق، قبل تسليمك للشرطة بتهمة التزوير..‏

-نفذ ما يقوله لك كاكاحمه.. نفذ يا حموده..‏

زمجر السلماني ويده تتحسس رقبته. فانطلق الأعور راكضاً لا يلوي على شيء.‏

-أحسنت يا آغا.. أحسنت.. بدأت تحكم عقلك..‏

قلت له قبل أن يدخل سلطان متوسلاً:‏

-دخليلك يا كاكاحمه.. خذلي حقي من الآغا.. خذ لي حقي.. امتعضت، بصقت على الأرض. ورددت كلماته التي قالها لي ذات يوم:‏

-امشي يا سلطان "حقك تأخذه بنفسك.. لست مسؤولاً عنك ... امش يا جبان..."‏

قبل أن يمتهن السياقة، كان سلطان تاجر الخضراوات والفواكه الوحيد، في القرية، والمتعهد الرئيسي لنقل البضائع بيننا وبين أربيل والقرى المجاورة. ولولا الطمع لغدا سيد القرية دون منازع دفعه الشيطان ليشارك السلماني بحجة تصدير محاصيلنا إلى الموصل وبغداد. لم تدم الشراكة سوى أشهر غدر به السلماني بلؤم.. سلخ جلده وطرده. وأعطى الوكالة لسعدو قبل أن ينفرد بها حسان ابنه..‏

ارتبك سلطان أحسّ بالخذلان وتذكر ذلك اليوم الذي التجأت إليه أطلب مساعدته ليكلم شريكه ويرد حقوقنا فنهرني.. وطردني..‏

أبعد السلماني يدي عن رقبته. ومضى بمراوغته.‏

-أحسنت يا كاكاحمه.... بارك الله بك... كل شيء حلال عليك. أضاف وهو يمسح الدم بذيل قميصه:‏

-أنت رجل..... أثبت رجولتك...‏

-المبلغ الباقي متى ستدفعه؟ ألف وخمسمائة ديناراً‏

-غداً... والله العظيم.. نقودي في البنك...‏

-أعرف.. سلمك الجمولي خمسة آلاف.. لذا سأمهلك حتى عصر الغد.. واحذر أنت والجمولي.. قل له ستسلم الأوراق للقضاء عند أول بادرة سوء منه.. وليبتعد عني ولا يريني وجهه ما دام حياً. قاطعني وهو يلقي بعنقه المدمى إلى الخلف. مريحاً رأسه على الجدار. وهرع حسان يخفف عنه، ويساعده.‏

-أعطيتك كلمة.. ولن أتراجع عنها..‏

-يا كاكاحمه..‏

أراد سلطان أن يتملقني فنهرته دون أن أبرح مكاني:‏

-الأيام تعيد نفسها يا أبا محمد! قبل قليل قلت للسلماني: "الظلم مرتعه وخيم.." وأقول لك الآن: أن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.. فأخرس يا سلطان.. وأخرج.‏

رفض سلطان وتحرك محتجاً. فقفز حسان صوبه. يروم إفراغ حقده، ضربه بدلاً عني. فمنعه والده:‏

-قف يا حسان.. اهدأ واعقل.. اترك سلطان ليخرج.. استجاب الابن وتوقف. توقعت مثل سلطان أن يبادر السلماني إلى ما يفرحه لكنه أمر حسان:‏

-اذهب إلى البيت. اجلب لي من غرفتي، قنينة كولونيا. لأعقم الجرح.. قد يكون المنجل ملوثاً.. سامحك الله ياكاكاحمه.. سامحك الله..‏

استدار سلطان ليغادر المضيف متلوعاً من الفشل فناداه السلماني:‏

-مر عليّ غداً يا سلطان.. مر عليّ غداً.. غداً..‏

-حاضر.. سيدي الآغا.. حاضر..‏

هتف سلطان بتملق.. وحلق طائراً.. وتبعه حسان.‏

-لماذا فعلت بي هذا يا كاكاحمه؟ لماذا؟ أهنتني أمام أصحابي.. أما كان التفاهم أفضل!‏

الخوف والجبن حولا "الآغا الكبير" من وحش كاسر إلى قطّ مسالم فراح يسترضيني، ويهدئ من ثورتي. كأنه قرأ ما في أعماقي وأدرك جديتي..‏

أنت البادئ، والبادئ أظلم.‏

عاد حسان بعد دقيقة بقنينة الكولونيا، ومنشفة نظيفة.‏

تناولهما الأب وشرع يمسح الجرح النازف، ويرش المطهر.‏

وبعد دقائق جاء عبد اللّه المختار، يرافقه محمد حاملاً حقيبته الجلدية.‏

فزعا لرؤية الجرح، الدماء وزاد فزعاً لرؤية منجلي. ووضعية "الآغا".. المسالم!‏

-ماذا جرى يا بني؟ ماذا جرى؟‏

-سألني المختار فأجاب السلماني بدلاً عني:‏

-لا شيء يا حضرة المختار، لا شيء.. حصل سوء تفاهم، وانتهى بحمد اللّه..‏

لم أهتم لحديثهما.. تذكرت أمي وافتخار فسألته:‏

-يا مختار، ألديك مانع من زواجي هذا الأسبوع، أي اعتراض؟‏

بوغت حقاً، بدا الأمر محيراً بالنسبة إليه. فلا مزاح أو تهاون مع الموت، لكن "الصكوك" التي أحرقها فخلصت رقبته من أسر الجمولي و" رقبة السلماني المدماة" دفعتاه ليفعل المستحيل في سبيل إرضائي..‏

-لا.. لا يا بني.. لا.. ولم المانع!‏

-قيل لي: أنك ترفض.. تمانع بسبب المرحومة..‏

-كذب.. الموتى لن يعودوا.. مبروك لك يا بني.. مبروك عليك مقدماً.. وسأحضر بنفسي..‏

-وسأحضر.. أنا أيضاً..‏

أعلن السلماني..‏

لم أكن مستعداً لسماع المزيد. وبدا محمد على عجلة من أمره. لذا استعجلتهم فجرى البيع والشراء بيني وبين منير السلماني بصورة قانونية، وبرضا الطرفين. وشهد المختار وحسان، يلفهما الذعر والرهبة، ويعتريهما العجب والحيرة!‏

وعندما انتهى كل شيء. أحسست بصداع خفيف يطرق قحف جمجمتي. فتركت المضيف وخرجت متجهاً إلى البيت.‏

وجدت أمي في سعادة. وهي تلاعب الدنانير المنثورة، على امتداد أرض الصالة!‏

لم تنتبه لدخولي. سعلت لأشعرها بمجبئي.‏

التفتت فرأتني واقفاً قربها. خجلت وراحت أصابعها تلمّ الأوراق النقدية.‏

-أخبرني سلطان بأن الآغا بخير فطمأنني..‏

قالت مسوغة عدم عودتها إلى المضيف واسترسلت:‏

-اليوم فقط احترمته.. افتدى روحه بالمال من شر مستطير.. كان من الممكن أن يحرق الأخضر واليابس.‏

لم أعلق.. فسألتني بمكر:‏

-أكنت جاداً في ذبحه.؟‏

-لا أدري.. ربما..‏

أجبت، ودخلت غرفتي. فلحقتني.‏

تمددت على سريري. أغمضت عيني فسمعتها تهمس بخوف:‏

-جسمك متورم..!‏

قاطعتها بإشارة من يدي.‏

-دعني أجلب لك الحكيمة..‏

-لا داعي..‏

-إنها لدغة ثعبان!‏

-دعني الآن لأغفو قليلاً، إنها ليست أول لدغة!‏

-ماذا تقصد؟ ربما يتسمم جسمك كله..‏

-لا تخافي.. جسمي متسمم قبل الثعبان.. ولكني لن أموت الآن.. لم يحن وقتي بعد.. لم يحن..‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:26 pm

4 -‏

قبل صياح الديكة استيقظت شعرت وأنا أنهض بحيوية عجيبة، دفعتني لمغادرة السرير.‏

زال صداع أمس وبدوت في كامل نشاطي! فعجبت ودهمتني الأسئلة. تساءلت وألم الذكرى يعتصر بكلتا راحتيه فؤادي، هل يكذب الأطباء؟ أيمارسون إرهاب مرضاهم؟ أم أنهم لا يجيدون التشخيص؟‏

توضأت. تجرعت كوباً من اللبن، وأكلت كسرة خبز. وهما بقايا ماجلبته بالأمس أمي التي لم تزل نائمة عندما تركت البيت ومعي منجلي، معلقاً في زناري.‏

شعرت بعذوبة النسيم وبرودة الهواء، وأنا أواجه الساحة. وتسلل نسيم الليل إلى وجهي، وأنا أتجه إلى المسجد ناوياً الصلاة خلف ملا عطا الله.‏

بعد خطوات قليلة توقفت أستجمع أنفاسي وأملأ صدري بالهواء. لفحني النسيم البارد فآنتعشت روحي ودمعت عيناي. ارتعشت بنشوة. وسرت وسط الضباب المتجمع.‏

كانت رائحة الأرض الندية المفعمة بأريج العشب، تعطر الجو الممتلئ بالضباب، وبوشوشة الأعشاب وهسيس الأشجار وطقطقة العيدان، وبصوت اصطفاق باب حظيرة المختار الفارغة.‏

وجدت باب المسجد مغلقاً. فمضيت قدماً إلى دار الملاّ. طرقت الباب بهدوء، ثم بشدة حين لم أسمع جواباً. وبعد دقائق فتحت زوجته رباب، بعد أن أضاءت المصباح الخارجي.‏

بدت عليها الدهشة، لرؤيتي منتصباً أمامها!‏

-كاكاحمه!! ماذا تريد؟‏

تمعنت في وجهها الملطخ بألوان الليل. وتبسمت:‏

-جئت للصلاة. ذهبت إلى المسجد فوجدته مغلقاً!‏

بانت دهشتها بوضوح مع الأصباغ الباهتة:‏

-ما زال الوقت مبكراً يا كاكاحمه! وعمك الملاّ لم يبرح فراشه بعد!‏

تناهى إلى سمعي صوت خرير ماء. فداخلني الشك في قولها. ولأني ما تعودت أن أسمع كذباً من خالتي رباب، صدقتها. وكأنما أراد اللّه أن يبرئ ساحتها "مما تدعيه عمتي" تعالى في تلك اللحظة صياح ديك من مكان قريب! ثم تسابقت الديكة بالصياح. وكأنها على اتفاق مسبق.‏

-اللعنة، نامت الكلاب فاستيقظت الديكة.‏

-لا يا كاكاحمه.. لا.. لا تسب الديك.. إنه يوقظ المسلمين للصلاة.‏

نهرتني بأدب، فتراجعت عن لعنتي وقلت مؤكداً:‏

-أعرف يا خالة رباب.. أعرف.. فإذا صاح الديك فليقل:‏

أحدكم سبحان ربي الملك القدوس.‏

ذكرتها بما نسيته فرددت بزهو:‏

-سبحان ربي الملك القدوس.‏

وأردفت معاتبة:‏

-إذ كنت عارفاً كل هذا فلم تتغافل!‏

لم أول اهتماماً لما قالته. خاطبتها وأنا ابتعد على غير هدى.‏

-سأتي بعد قليل.. لينهض الملاّ.. سأذهب لإيقاظ الرجال.‏

ضحكت بهدوء.. ولاحقني صوتها هادراً:‏

-تعال افطر عندنا.. سننتظرك..‏

رفعت يدي شاكراً ومضيت.‏

مررت على بيت جدي المهجور فتوقفت. جالت في ذهني الذكريات المريرة.. تخيلت جدي وهو يخرج حاملاً عصاه! ويروح يتوعدنا.. أنا وأخي "رحيم" ولاح "دم عمتي بتول" وهو يغطي أرض الحمام أكثر احمراراً.. ونقاوة! فلم أحتمل المنظر البشع المحير..‏

استأنفت سيري فسمعت صوتاً يناديني بعد عدة أمتار! التفتّ فرأيت المختار واقفاً في غرفة نومه، يسند كوعيه على قاعدة الشباك الغربي. يفرك عينيه لطرد النعاس. رثيت لحاله، فهو يعيش وحيداً. يتعاون على خدمته-منذ وفاة زوجته -شباب القرية. يطبخون له وينظفون داره ومكتبه.‏

-صباح الخير يا حضرة المختار.‏

-صباح النور يا كاكاحمه.. إلى أين؟‏

-أريد الصلاة في المسجد..‏

-المسجد صار خلفك يا كاكاحمه!‏

-صحيح! سأرجع.‏

استدرت عائداً فصاح مستغرباً، ساخراً:‏

-تعال هنا.. ماالذي جرى لك؟ ماذا بك؟ تصرفاتك غريبة!‏

-لا غريب إلا الشيطان يا حضرة المختار.‏

-القرية كلها تتحدث عنك.. لا حديث لهم غيرك..‏

-ما دمت لا أملك أقفالاً، فستظل أفواههم مفتوحة. رددته بسخط وحاولت المضي بعيداً عن وجهه فاستوقفني‏

-اخبرني باللّه عليك، من أين حصلت على الصكوك؟‏

أغضبني استفساره. تملكني النفور منه فصحت به:‏

-رجوتك يا مختار ألا تذكرها! والآن أنذرك إياك.. إياك أن تفتح فمك ثانية.. بصددها.. انسها..‏

-وحامد الجمولي..؟‏

-دسه بقدميك كحشرة قذرة. ما عاد له عندك أي شيء حتى عود كبريت.. فلا تخف منه..‏

-أتظنه يسكت.. سيشتكي علينا؟‏

-ليلحس البلاط.. كفاه استغلالاً لك.. مضت عشر سنوات على الحادث.. وأنت لم تزل في خنوع مستمر! وإذا ما اقترب منك. سأقتله وحق اللّه. سأحز رقبته وأحسب أن اللّه لم يخلقه.‏

ابتسم برضا واقتناع. دعاني للدخول فرفضت، وإذا به يسألني:‏

-لماذا نسيت أوراق الأرض؟‏

-أية أرض؟‏

-الأرض الشرقية!‏

-ما بها؟‏

رازني بفزع وزفر بغيط:‏

-لا تجنني يا كاكاحمه! ألم تشترها أمس من السلماني؟‏

-نعم.‏

-إذن لم تركت الأوراق ومضيت دون سلام؟!‏

-أنا!!‏

-لا.. أمي! نعم أنت.. تركتها بيد السلماني وخرجت! تنهدت وصمت مفكراً. تذكرت كل ما حصل فدهشت. لكني لم أشأ إظهار سذاجتي:‏

-أيقدر السلماني على اللعب بذيله؟‏

-كأنك لا تعرفه!‏

-وأنت لم تعرفني بعد يا حضرة المختار! لو فعل فمنجلي ينتظره.. أين هي الآن؟‏

-أخذتها منه، أردت تسليمها لخجة، البارحة.‏

جئت مع محمد... وجدناك نائماً. فأخذها محمد إلى كاتب عدل أربيل، ليوثق عملية البيع ويصدقها بصورة رسمية ليسهل تسجيل الأرض بالسجل العقاري، لتحصل على سند التمليك.‏

-حسناً فعلت يا مختار.. لكن.. كيف نسيتها عندكم؟‏

-اسأل نفسك!‏

-سأسألها..‏

-عجيب!!‏

هتف ساخطاً.‏

تطلعت إليه مستغرباً. فتابع غير عابئ بضجري.‏

-هل قصة البصمات صحيحة؟ أخبرتني خجة التزوير فلم أصدق. زاد ضجري ولم تعد لي رغبة في متابعة الحديث.‏

اختصرت الحديث في كلمتين:‏

-دوختني يا مختار.‏

تركته دون وداع وعدت من حيث أتيت.‏

وجدت نفسي بعد عدة أمتار عند باب الملاّ، فطرقته رغماً عني.. لا أدري لِمَ لم أحب هذا الرجل من كل قلبي، ولا أثق به أبداً فتحت لي زوجته. رحبت بي وأدخلتني. وأنسلت هي إلى المطبخ رأيت الملاّ يفترش أرض الصالة بجلبابه الأبيض العريض ولحيته الحمراء، المصبوغة "بحنة يزد" المهربة. يجفف شعر رأسه الكبير بمنشفة قطنية. مما دل على خروجه للتو من الحمام! كان الملاّ في الستين من عمره، قصير، ممتلئاً، طويل الوجه، واسع العينين كبير الأذنين. بينما كانت الخالة رباب طويلة جميلة، تصغره بسنوات قليلة، صحيح أن وجهها الملطخ دوماً يخدع الناظر، لكن رقبتها تفصح عن حقيقة عمرها.‏

-احك لي قصة الأرض يا كاكاحمه كيف اكتشفت التزوير بعد تلك السنين؟‏

-ستقصها عليك أمي.‏

اخرسته. تلعثم وقال بعد قليل:‏

-جسمك متورم يا بني!‏

-إنها لدغة ثعبان يا حضرة الملاّ!‏

-ألم تتداو؟‏

-نعم دهنت جسدي بعصير الصبير، وحقنت بإبرتين.‏

-حسناً فعلت.. ألم يكن أفضل لو أخذت حقنة "الأوس بورين"!‏

-الأسبرين يا ملاّ عطا اللّه.. اسمه الأسبرين.‏

-ماذا عملت أمس يا كاكاحمه؟‏

-لا أذكر.‏

-في بيت الآغا، وقبله مع سعدو؟‏

-إنه أمر اللّه القدير‏

أخرسته ثانية بردي القاطع. سكت لحظة وكاد يفتح موضوعاً جديداً لولا زوجته، عادت تحمل صحناً مليئاً بالفول المغطى بطبقة من البيض المحمر، المقلي بالزبد.‏

وضعته أمامي، فسحبه ناحيته قليلاً! ودعاني.‏

لم أتردد، شاركته الفطور، بشهية مفتوحة.‏

ونحن نأكل عاد للأسئلة:‏

-غبت أسبوعاً عن البيت، فأين كنت وماذا عملت؟‏

-لا يا ملاّ، إنها خمسة أيام بالتمام. ذهبت مع خالتي مريم لإجراء الفحوص الطبية.‏

-وماذا قالو لك؟ ماذا؟‏

-كل خير.. وعليه قررت الزواج اليوم.‏

-مبروك مقدماً.. أخبرتني أمك حفظها اللّه..‏

أحسنت الاختيار يا بني، أحسنت وباركك الله..‏

إنه ثواب كبير.. ستنقذ هذه المسكينة هداية من اليأس. "حين هوجمت قريتنا ودوهمت البيوت، وعبث الأوباش بشوف النساء.. وقتلوا أخي الصغير رحيم، وعبد الكريم الابن البكر لعم مصطفى مع اثنين من ولد المخرف وغيرهم. فقدت هدهد بصرها إثر ضربة ماحقة من أخمص بندقية جندي أرعن، على يافوخها.."‏

-يا لي من غبي! نسيت!‏

-نسيت ماذا يا بني؟‏

استفسر عجباً إثر صراخي المفاجئ فأجبته بهدوء:‏

-مطالبة السلماني بمصاريف الزواج.‏

-لا تشغل بالك بهذا الأمر.. سأطالبه أنا.. لكن، هل فكرت بالمختار؟ العجوز ماتت..‏

ما الذي يجري؟ ماذا حدث؟ أمي، افتخار، الملاّ! أمي مانعت، اعترضت لأنها تشتهي أن تكون "شذى" زوجة لي. وافتخار حاولت العرقلة لأنها تشتهيني، وتتمنى أن تكون زوجتي.. فما هو غرض الملاّ؟ ماذا يقصد هذا العاقر..؟ لو كانت له بنت لقلت إنه يريدني زوجاً لها.‏

-عمي عبد اللّه لن يمانع.. كلمته بنفسي، بشهادة السلماني.‏

-على بركة اللّه.‏

رددها مرتين، ثم ساد الصمت. رحت أمضغ الطعام بسكينة، وعيناي تجوبان الصالة، تتطلعان إلى الآيات القرآنية المذهبة والفضية المنتشرة على مدار الجدران. الهدوء العجيب، المخيم على بيت الملاّ أثار دهشتي. وعجبي الكبيرين. تذكرت سنوات الطفولة والصبا والشباب. وأقفاص البلابل والطيور الجميلة المختلفة الألوان والأنواع. تذكرت أعداد الدجاج والديكة الغفيرة، التي كانت تسرح هنا، داخل البيت وحواليه بكثرة. تذكرت موعظته في المسجد.‏

كنت صبياً ابن العاشرة أو الحادية عشرة، حين صحبني أبي مع رحيم إلى المسجد. وسمعنا الملاّ يقول "قال الرسول (ص): كثروا من الدواجن في بيوتكم ليتشاغل بها الشيطان عن صبيانكم" وأضاف شارحاً: إن المؤمنين يحبون أن يكون في بيوتهم شيء من الدواجن، مثل الحمام والدجاج. ليعبث بها صبيان الجن ولا يعبثون بصبيانهم..‏

وددت أن أسأله لماذا ترك عادته، وأفرغ أقفاصه. لولا أنني تذكرت قول نصار "عبث الشيطان في خصيتيه فعقرهما".‏

-وماذا قررت أن تعمل بعد تسريحك من الجيش؟‏

-سأبني مدرسة. وأعيد بناء المسجد.‏

-المسجد!! وماذا به مسجدنا؟‏

هتف فزعاً كمن أثيرت حفيظته. فأوضحت:‏

-سنهد هذا البناء القديم، ونبني ما يليق بك يا ملاّ عطا اللّه المحترم. رأفة بعمي حسن وخوفاً على المصلين. انتبه إلى جملتي الأخيرة فحدجني بنظرة غضب وسأل:‏

-ممن تخاف؟‏

-من الرياح والأمطار.‏

ضحك مستخفاً وقال:‏

-لا أفهم.‏

-وأنا في المستشفى رأيت حلماً. سقط السقف على رؤوس المصلين..!‏

-أعوذ باللّه من حلمك.. اسكت.. اسكت.‏

هتف محتجاً... فاستنكرت بحدة:‏

-لم تعجب يا عطا اللّه؟! السقف واقف على الصلوات. إنه آيل للسقوط. أما تراه كذلك؟‏

لم يرد سكت احتراماً لشيبته. إذ عادت زوجته حاملة ابريق الشاي ولوازمه. فتابعت بنبرة جازمة:‏

-سأبدأ بعد أسبوع.. يوم السبت القادم.. سأحفر لك الأساس يا حضرة الملاّ.‏

خاف أن أسمعه كلاماً خشناً فسارع للقول وهو ينهض قبل الانتهاء من تناول فطوره.‏

-بارك اللّه بك يا كاكاحمه. بارك اللّه.. هيّا بنا إلى المسجد.. حان وقت الصلاة.‏

ونهضت بدوري قائلاً:‏

-لا.. يا ملاّ. سأذهب إلى الأرض الشرقية. فلا تنسى عقد القران.. عصر اليوم.. وإذا وجدت يحيى ابن المخرف في المسجد أرسله لي... قل له كاكاحمه يريدك.‏

بانت الدهشة على وجهه وهو يمسك كتفي:‏

-والصلاة! ألم تأت لتصلي؟‏

-سأؤجلها للمغرب..‏

-ابق.. أكمل فطورك.. اشرب الشاي.. أنت لم تأكل..‏

-شبعت.. أكلت كفايتي.. فولكم قديم يا خالة لكن البيض طازج.. رائع!‏

-بالهناء والشفاء..‏

شكرتها وخاطبت الملاّ:‏

-سأتيك عند المغرب..‏

ودعتهما وخرجت.‏

ذهبت إلى الأرض الشرقية، فتضوعت حال وصولي رائحة أجساد أبي وأجدادي مع ذرات التراب. بها تعبوا وعرقوا، زرعوا وحصدوا قبل أن يستحوذ عليها السلماني بحيلة خبيثة وغش فاضح مستغلاً جهلنا وعجزنا عن مواجهته.‏

شممت رائحتهم فأمتلأ قلبي نشوة. صليت على تربتها وجلست أسترجع الذكريات ورائحة الأجساد تعشش في أنفي. تذكرت ما حدث أمس. وتحسست موضع اللدغة تمعنت في الجرح وفحصت الورم ولم أبال أو أعجب بقدر عجبي: كيف فاتني أخذ أوراق البيع معي بعد توقيع السلماني والشهود عليها!‏

استرحت لدقائق. أخرجت منجلي ونهضت.‏

وقفت أتفرج على الأرض الحبيبة التي عادت لي.‏

لم أر غير الأعشاب والصبار والصخور. كان عليّ أن أزيلها كلها، لأبدأ العمل الحقيقي. حرثها وسقايتها وبذرها. احترت بم أبدأ.. فكرت ثم قطعت صبارة كبيرة. قشرتها وتعريت. وأنا أتساءل لِمَ أهملها السلماني؟ لم تركها دون زرع!‏

نزعت ملابسي بالكامل ورحت أدهن جسدي، بالسائل الصمغي الكريه الرائحة..‏

وبينما كنت منشغلاً تناهى لي صوت صفير عال. أعقبه صراخ ساخر:‏

-استحي على نفسك يا كاكاحمه، وارتد ملابسك التفت فرأيت يحيى، يقف على بعد مني، يضع اصبعيه بين شفتيه ويطلق صفيراً مدوياً..‏

-تعال ساعدني.‏

ناديته فاقترب وهو يصيح:‏

-استر نفسك.. استيقظ الناس..‏

تظاهرت بعدم السمع واستقبلته:‏

-هل عاد عيسى؟‏

عجب لمبادرتي:‏

-لم تسأل عنه؟! ماذا تريد منه؟‏

-إنه أملي.‏

-أطوارك غريبة يا كاكاحمه! ألبس.. البس.. الجو بارد.. أمرني ويداه تضعان ملابسي على كتفي. فمازحته:‏

-ألم تر عارياً من قبل؟ أم إن ما لديّ أثار عجبك؟!‏

-أمجنون أنت! أجننت؟!‏

-أتراك لا تملك مثلي! وبشيرة تستحي أن تقول..‏

-عيب!! عيب هذا الذي تقول يا كاكاحمه.. صار عندي خمسة أطفال! أم أنك تشكك بأختك...‏

-اللّه أعلم.. كل شيء جائز..‏

-لعنة اللّه عليك.. لعنة اللّه..‏

بمعونته رحت ألبس ملابسي، وعيناه تتمعنان فيّ بحذر وشفقة.‏

-كيف أنت الآن؟ هل تشعر بتحسن؟‏

-لا شيء يؤلمني.. لاشيء.. جرح السكين ينخزني أحياناً.‏

-الورم طبيعي فلا تهتم.. لكن رائحتك كريهة! يجب أن تغتسل.‏

-قالها السلماني فحززت رقبته.‏

قهقه بصوت عال وسأل:‏

-أكنت تروم ذبحه حقاً؟!‏

حنيت رأسي بالإيجاب وأضفت:‏

-افتدى روحه بالمال..‏

أبديت قناعتي بما حدث. واسترسلت بما أذهله:‏

-وأنت ماذا جئت تفعل هنا؟‏

-ألم ترسل بطلبي.‏

-أنا!! متى؟‏

-أعوذ باللّه.. أخبرني الملاّ الآن..‏

-الملاّ!! إنه كاذب..‏

-استغفر اللّه.. ولم يكذب؟ ألم تكن عنده في..‏

-قلت لك إنه إنسان كاذب.. كاذب.. فلا تجادلني..‏

زعقت بامتعاض.. ثم سرعان ما هدأت.‏

-ما بك يا بن عمي..‏

-لا شيء.. لا شيء.. أنا لا أحب الملاّ ولا أثق به..‏

-ثمة شيء غريب في عينيك.. قل لي، عليّ أستطيع مساعدتك.‏

-ربما أرسلك الملاّ لتساعدني في تدليك جسدي..‏

نظر إليّ بارتياب وردد:‏

-حسناً.. حسناً.. قل لي أنت، ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟‏

-ماذا أفعل؟! يا لك من ساذج! إنها أرضي.. جئت لأنظفها..‏

-صحيح، سمعت أنك اشتريتها بالمنجل.. مبروك.. مبروك‏

-أتسخر يا يحيى..!‏

-أعوذ باللّه.. أعوذ باللّه.. أردت القول أنك..‏

-لا يهم.. لا يهم.. لقد جئت لأنظف أرضي. ألديك مانع؟ لم يبد عليه أنه تأثر بصراخي المقاطع لحديثه ضاعت عيناه بين الصخور المتناثرة والأعشاب. وصاح:‏

-هل ستزيل العاقول بالمنجل؟‏

-أتراه قاصراً.. هذا الذي أعاد الأرض وحز رقبة الآغا؟‏

أم أنك تريد أن أحشه بيدي!‏

-لا.. يمكنك إحراقه، النار أسرع وأفضل.‏

-ألا يدمر ذلك الأرض؟‏

استفهمت منه فقال:‏

-العاقول لا جذر له.. ويمكنك كنس الأرض قبل حرثها..‏

-إنها عملية شاقة يا زوج أختي..‏

رفض قولي: -دعني أنجزها.. لترى بعينيك..‏

أخرج علبة الكبريت من جيبه. استدار يصد النسيم، الريح الهابة ليمنع الهواء عنه، كي يشعل عود الثقاب فمنعته.‏

-لا تفعل. لا يحرق بقايا المحاصيل إلاّ الفلاح الجاهل.. فالنار لا تشعل في الأرض الزراعية.. لأن الحرارة تبدد البقايا العضوية.‏

هز يده مستخفاً واستهزأ..‏

-واللّه عال!! أي محصول هذا؟‏

قاطعته موبخاً:‏

-سأصنع منك فلاحاً عظيماً.. إذا بقيت حياً..‏

لا أدري كيف انطلقت الكلمات الثلاث من فمي، أفلتها لساني دون فطنة! مما أذهله فاستوضح على عجل:‏

-ماذا تقصد؟‏

سارعت لأتفادى هفوتي. قلت:‏

-السلماني الكلب قد يغتالني هو أو الجمولي.‏

-صحيح، الحذر واجب.. فهذا كلب بلا أسنان.. لا يستطيع حتى العض.. ولكن الغدر طبيعته..‏

سكت لحظة وما لبث أن أبدى استغرابه:‏

-حدثتني بشيرة عن اكتشافك لعملية التزوير! فما الحكاية؟ حدثته بالتفصيل فدهش وحرضني على الشكوى لينال "الأوغاد" عقابهم فرفضت، وسخر من "المبلغ التافه" الذي أخذته كتعويض:‏

-لا أريد اثارة المشاكل أرسلت بطلبك لتساعدني أوصيت الملاّ. قبل قليل.. ضحك مقاطعاً فسكتّ.. شعرت بارتباك. هززت رأسي لاستعيد وعيي. وقلت بحرج.‏

-صحيح.. نسيت.. كنت في بيت الملاّ.. قبل الفجر! فتصور!!‏

-إذن طلبتني بلسانك..!! الحمد للّه.. قل لي يا كاكاحمه، صارحني بالحقيقة، ماذا بك بالضبط؟ هل تشعر بشيء؟‏

-.....‏

-ماذا قلت لأختي.. افتخار؟ أخبرتني بشيرة، أنك آذيتها! منذ أمس وهي قابعة في غرفتها، واجمة محزونة. تقلب كفيها على نار.. افتخار تحبك يا كاكاحمه.. أختي وأعرفها جيداً.. تحبك.. فلا تظلمها..‏

لم يستطيع أن يخفي عني المرارة التي راحت تسيل من عينيه وفي لهجته، مما أوجب عليّ التوضيح. وأنا أغالب دموعي خشية هطولها، والعبرة قبل أن تفضحني:‏

-لي ظروفي الخاصة التي لن أستطيع الوقوف في مواجهتها.‏

-إذن دعني أساعدك.. أقف معك..‏

-لن تستطيع.. لن تستطيع..‏

-لماذا؟‏

استفسر بألم فراوغت:‏

-تستطيع مساعدتي هنا.. لا تنسى أنني سأكرمك..‏

سأضع الأرض تحت تصرفك..‏

-لا أفهم..‏

هتف بغبطة كأنه يستجدي المعلومات، فأخبرته:‏

-سننظفها ونحرثها معاً.. ثم تبذرها أنت وتحصدها.. ونتقاسم الربح..‏

بوغت بالعرض المثير فقال:‏

-وماذا نزرع؟‏

-هذا يعتمد عليك.. ولن أتدخل في شؤونك.. لاحت سعادة كبيرة في عينيه. لاحظتها تفيض من وجنتيه.‏

-ولم طلبتني أنا بالذات، دون غيري؟!‏

-إضافة إلى صلة الرحم، يقال: أعط خبزك للخباز حتى لو أكل نصفه..هل توافق؟‏

شبك أصابعه ونظر إلى الأفق. زم شفتيه، لحس لسانه شاربيه وقال:‏

-إنه لأمر يستحق التفكير، مادام السمك في مائة..‏

-كفى.. لا تتفلسف.. إذا لم توافق فأمامي الكثير من الرجال.. وأولهم سلطان.. وهو على استعداد ليكون خادماً لي.. لا شريكاً..‏

-موافق.. موافق يا كاكاحمه..‏

-على بركة اللّه.. هيّا شمر عن ساعديك.. لنبدأ الآن.‏

-أنت بحاجة للراحة فلا تتعب نفسك .. ثم إن العمل صعب وشاق.. لن نقدر عليه وحدنا.. يستحسن أن نطلب المساعدة..‏

وجدت كلامه مقنعاً فشئت الحركة:‏

-سأطلبها من الأصدقاء.. سأسألهم إن كان بمقدورهم تقديم يد العون لنا.. انتظر لن أتأخر..‏

وقف بوجهي معترضاً وناصحاً:‏

-إلى أين؟ دع الشمس تشرق أولاً.. وليفتح نصار مقهاه..‏

رن اسم نصار في دماغي! تذكرت "هبة" الزوجة التي خانته فقتلها.. و"إلهام" الغريبة التي وشت به فسجنته..! تساءلت مع نفسي: لماذا لا يعود إلى مهنته الأصلية كبناء ليربح أكثر.‏

-صحيح!! ماذا دهاني؟‏

-تمدد وارتح.. وسأتلهى أنا..‏

قال وهو يأخذ منجلي. وقبل أن يشرع في العمل طرح فكرة مدهشة:‏

-سأدع موسى يأتي بأغنامه ليرعى بها.. حوافر الخراف والماعز ستحفر الأرض، وستترك مخلفاتها العضوية كسماد لازم..‏

رحنا نعمل بجد حتى الثامنة صباحاً. حين قدمت أمي تحمل لنا طعام الفطور:‏

-لِمَ تتعب نفسك يا بني؟‏

أبدت أمي مخاوفها كأنها تعاتب يحيى، الذي أجابها:‏

-طلبت منه أن يعود إلى البيت فرفض..‏

-ماذا جلبت يا أمي..؟‏

أبدلت مسيرة الحديث بسبب إحساسي بالجوع. وفرحت حين سمعتها تعلن بغبطة:‏

-وجدت بيضاً وحلاوة تركية في دكان صالح.‏

-أراك عدت للشراء منه يا عمتي؟‏

مازحها يحيى فردت.‏

-نقدته ديناراً، فأشتريت نصف محله!‏

-هل أعطيته الدين يا أمي؟‏

-بفضل اللّه.. لقد فرح كثيراً.. لم يكن يتوقع أن ندفع له كامل الدين..‏

-ومن أين جلبت هذا الخبز؟‏

-جلبته بشيرة..‏

سكتت فجأة، تبادلت مع يحيى نظرات عتاب. واستمرت تكشف سراً:‏

-جاءت زعلانة.. قالت:‏

-اسكتي يا عمتي.. يرحم والديك.. ابنتك ما عادت تطاق. عملت لنا هوسة قبل الصلاة..‏

تلاسنا بهدوء.. عرض المشكلة من وجهة نظره وردته أمي بأدب. ولم أجد بداً من التدخل ونحن نأكل:‏

-طلقها.. وسأزوجك شذى.. ابنة عمتي..‏

نصحته فعلقت أمي بامتعاض:‏

-كل.. كل.. بدأت تجن .. المرض أثر في عقلك!‏

-ومتى كان لابنك عقل يا عمتي؟!‏

ضحكنا. راقبت أمي وهي تمسح دموع فرحتها، فتذكرت وجه الخالة رباب. وحتى لا أنسى ما خطر على بالي قلت:‏

-اسمعي يا خجة، يجب أن تربي الدجاج. لا يعقل أن يظل بيتنا مرتعاً لأولاد الجن.. سأبني لك قفصاً.. في الساحة الخلفية..‏

ما كدت أنتهي حتى انفجرا في ضحكة متواصلة أخجلتني.. ولتلافي سوء الفهم أفصح يحيى عن دهشته:‏

-يوجد عندكم أربعة أقفاص! وهي فارغة منذ سنة!‏

-إذن لا نحتاج إلاّ للدجاج.‏

-دعنا نرى همتك يا كاكاحمه..‏

حفزتني أمي ونهضت تروم العودة إلى البيت. لكنها أفادت بحماس قبيل ذهابها:‏

-بالأمس، جلب لك المختار أوراق الأرض..‏

لم أدعها تكمل... سألتها:‏

-لماذا جاء محمد معه؟‏

قرقرت حنجرتها بضحكة:‏

-جاء ليتأكد من وصفة صوف البعير! ظنني أمزج أبقت الصينية وابتعدت كمن يفر..‏

وبعد مضي دقائق جاءت افتخار بطعام ليحيى ما إن وقع بصرها على البيض والحلاوة، حتى دهشت:‏

-من أشفق عليكما؟‏

-الآغا السلماني.‏

تهكم يحيى وعلقت:‏

-بشيرة أختي، جلبت الفطور لزوجها الحبيب!‏

-انكما تكذبان.. بشيرة خرجت زعلانة دون إفطاره والآغا لا يتكرم بكسرة خبز بعد ما حز المنجل رقبته.. ضحكنا فعقبت..‏

-سمعت أنهم نقلوه أمس إلى أربيل، خشية التسمم.‏

-أراك مهتمة به يا افتخار..!‏

-تخاف عليك.. فقد يتهور السلماني ويقدم بلاغاً ضدك.. طرح يحيى مخاوفه فلم أهتم وعادت افتخار لاستغرابها.‏

-قل لي يا كاكاحمه، أمجنون أنت! كيف قمت بذلك العمل البشع؟!‏

-أتريدين أن أحز رقبتك لتعرفي كيف؟‏

-اللّه يسامحك..‏

جلسنا ثلاثتنا، نأكل وندردش. ولما انتهينا انصرف يحيى لجلب من يعاونه. وأفرحته حين دفعته بحماس:‏

-أخبرهم بأني سأدفع لهم أجوراً..‏

مضى مسرعاً.. وتشاغلت افتخار بجمع الأواني، وتنظيف المكان:‏

-شكراً على مجيئك.. وأسفاً على المشقة..‏

-.....‏

-قال لي يحيى: إنك زعلانة عليّ . فلماذا؟‏

حاولت النهوض فسمعتها تتنهد:‏

-أما زلت مصراً على هداية؟‏

نخزني سؤالها في القلب. فكررت تصميمي:‏

-سأتزوجها.. قلت لك ذلك..ولن أتراجع..‏

تأملتني بمحبة ممزوجة بحزن وخيبة:‏

-اللّه لا يعطيك العافية يا كاكاحمه.. لقد خنتني بعد أن أودعتك أسراري..‏

-وأنا سأصون السر.. أقطع عهداً لك.. هزت يدها استهانة ومهانة. فأحسست نحوها برغبة العناق.. وكدت أفعل لولا شمس النهار.. بددت الضباب وعرضتنا على الملأ.. فمنعتني..!‏

-لماذا يا افتخار لا تباركين زواجي.. ثقي أنني أحبك.. وأخاف عليك.. وأريد لك السعادة..‏

رفعت كفها بوجهي ودمدمت:‏

-أنت مجنون.. مجنون!‏

أجهشت باكية قبل أن تعود مكللة بالخيبة. راقبتها وهي تبتعد. وحزّ في قلبي الألم.‏

أستلقيت على كومة الحشائش، وسبحت في بحار أحلامي.‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:28 pm

-5 -‏

بعد الظهر، جاءني حسان محملاً بالمال. تماماً كما وعد السلماني.‏

كنت في ساحة الدار الأمامية. قابعاً على الحصيرة، أراقب أمي وهي تنظف أحشاء دجاجة، بعد أن نتفت ريشها، مستعينة بالماء الساخن.‏

دق الباب بعنف، رفسها بقدمه. وحين صاحت أمي عمن يكون، دخل دون استئذان! وانتصب أمامنا يزفر الغل والخنق.‏

أدركت سبب مجيئه وخمنت محتويات الكيس، الذي ينام على صدره. فداخلني الفرح، لكن تصرفه الأرعن ألهبني ناراً.‏

-ماذا تريد؟‏

سبقتني أمي بسؤاله، بكراهية وغضب. ولم أحتمل، زعقت بوجهه:‏

-يا كلب!‏

ارتبك وحاولت النهوض فارتد خائفاً:‏

-ما بك يا كاكاحمه؟! ماذا حدث؟!‏

تعلقت أمي بردني متوسلة:‏

-اجلس.. اجلس.‏

ثم التفتت إلى حسان موبخة:‏

-ألا تستحي! كيف تدخل على هذه الصورة؟‏

ظهرت الدهشة في عينيه وهو يقسم:‏

-واللّه العظيم.. طرقت الباب..‏

سكت لحظة استرد بها أنفاسه وخاطبني:‏

-جلبت لك المبلغ الذي وعدك به أبي..‏

رف قلبي كعصفور طليق يسرح في غابة. تناسيت لسع النيران وأعلمته:‏

-إنه حقي يا بن السلماني أحمد اللّه لأني لم أقدم شكوى.‏

-كيف حال الآغا يا حسان؟‏

غيرت أمي لهجتها متظاهرة بالشفقة والعطف. ولم لا "والدينار يغري الضرير والمقمط بالسرير"!‏

-بخير يا خالة.. بخير.. أخذناه إلى المستشفى.. والحمد لله.. الجرح طفيف.. ادعي بأنه جرح نفسه بموس الحلاقة..‏

اختصر بخبث. فزادت شفقة أمي قالت وبصرها معلق بالكيس:‏

-اللّه يعطيه الصحة والعافية..‏

-شكراً لك يا خالة.. شكراً.. خذ يا كاكاحمه.. هذه ألف وخمسمائة دينار.. كما طلبت.. تناولت المبلغ من بين يديه. ضغطت عليه بأصابعي، بفرح غامر.. إنه أعلى بعشر مرات من أكبر مبلغ حضنته يدي.. طوال عمري..‏

فرحت به حقاً.. ثم لا أدري لم امتعضت فجأة. وطفرت دمعتي.. لم يسر قلبي لمنظره.. لم أبتهج به.. لقد جاء بعد فوات الوقت.. بعد..‏

رميته في حضن أمي. وأوضحت لحسان:‏

-إنه ديني.. لا فضل لأبيك عليّ.. لا فضل.. شهد دمعتي فقال مراوغاً:‏

-يمكنك عدّه..‏

أجهشت بالبكاء فارتعش وتوسل إليّ:‏

-إذا أحببت سأعدّه أمامك..‏

-لا داعي.. لا داعي.. لن أتعب نفسي.. سيعده الملاّ.‏

-وما علاقة الملاّ بالأمر؟‏

استفسر عجباً. وتطلعت أمي ناحيتي، تنتظر توضيحاً. مسحت دموعي وطردته:‏

-رح أنت.. رح الآن، وتذكر أني لم أبتزكم أخذت أقل من القليل.‏

-حاضر.. السلام عليكم..‏

قبل خروجه أوقفته:‏

-يا حسان، قل لأبيك عن لساني، ابتعد عن طريقي ولاتتحرش بي.. وتذكر أن الموت يطلبك.. سيأتيك حتماً، فكفر عن سيئاتك، رد للناس مظالمهم وأتق اللّه.. وأنت يا حسان لا تفكر بالغدر والطعن بي، وإلاّ..‏

-أنا!! لا وحق اللّه.. لست كما تظن.. بشهد اللّه أنني لم أتدخل بينك وبين أبي.. هل صدر مني ما يشين..؟‏

-ربما خشية من المنجل.. لو تدخلت أو تفكر بالتدخل لقطعت لسانك..‏

-يا كاكاحمه..‏

-خفف من غلوائك يا حسان.. ما عادت أساليب البطش تنفع في قريتنا.. تغير الزمان.. وما من أحد يهابكم اليوم كما كنتم.. البيوت ملأى بالسلاح.. ورصاصة واحدة تكفي.‏

-السلام عليكم..‏

ودعنا وخرج يتعثر بقدميه..‏

ضحكت رغماً عني.. قرقرت ضاحكاً وأنا أشهد أمي تضع رزمة الدنانير في حضنها كطفل بكر، بينما ذراعاها يتقاطعان فوق بطنها حرصاً واعتزازاً..!‏

-عيب هذا الذي تفعله.. عيب، إنه الآغا!‏

حدجتها بمرح وذكرتها:‏

-أنا لم أشتمه يا خجة. قدمت له النصيحة، فاستفاد. وها هو ابنه أمامك، تأدب في ظرف دقيقة! جاء محارباً فإذا به يرمي سلاحه قبل أن يصل حلبة الصراع!‏

-يكفي إنه أعاد لنا..‏

-يا خجة، هذا المبلغ كبير في عيوننا لكنه لا يساوي عند السلماني شيئاً يذكر.. إنه يصرف أضعافه في جلسة سمر واحدة.. ثم ما هذا التغير! ما سبب هذه الشفقة المفاجئة! بالأمس أردت ذبحه أمام عينيك فلم تقولي عيب!! فما الذي حدث بين الأمس واليوم؟‏

-أتدري كم عدد الذين جاؤوا محذرين؟ إنه الآغا! أنسيت؟‏

-اسكتي يا خجة.. اسكتي.. إنه بشر مثلنا.. لا أكثر..‏

وهذه الدنانير كانت تقف حاجزاً بيننا.. والآن تساوينا..‏

-انت ستجنني .. سأقوم من هنا.. سأبتعد عنك.. سأطبخ.. ثم أنظف غرفتك..‏

-ولم ياخجة؟!‏

-قد تأتي بعروسك اليوم أو غداً.. كما تريد..‏

-لا تتعبي نفسك.. هدهد لا ترى.. فلا حاجة.. منعتها ببلاهة وتهور، لم أفطن لهما إلاّ بعد غضبها.‏

استاءت وهتفت مهددة:‏

-حرام عليك يا بني.. إذا كنت تبغي معاملتها هكذا، فلن أسمح لك بتعذيبها.. لن أدعك تتزوجها.. لا لن أدعك شعرت بغلطتي فحاولت التوضيح:‏

-لا أريد إتعابك.. سأنظفها بنفسي..‏

كشرت عن أسنانها ودافعت عن وجهة نظرها:‏

-ستأتي أمها وخالاتها.. وضيوف آخرون...‏

-لن يدخل أحد دارك غيرها..‏

بهتت، قطبت من جديد.. مدت بوزها مستفهمة:‏

-لا أظنك جاداً..‏

-سنقيم الحفلة في بيت عم مصطفى.. وبعدئذ سأجلب هدهد وحدها.. ولا من شاف ولا من سمع.‏

لم تصدق. ظهر ذلك في عينيها. قالت:‏

-أمجنون أنت! ماذا بك؟ إنه عرسك وسأقيم الدنيا..‏

-لا أريد.. نظفي غرفتنا فقط.. وأفرشي لنا على الأرض.. ونامي أنت في..‏

رفعت يدي مشيراً بإصبعي نحو الخارج.. ولم أكمل ارتسمت على شفتيها ابتسامة عتاب:‏

-أتريد طردي منذ الآن؟! أهذا جزاء تربيتي!‏

-لا....لا يا خجة.. لا تظلميني.. أريد أخذ راحتي ليوم.. لليلة واحدة.. استمتع بوقتي.. أليس الدخول في النعيم.. والتنعيم في شهر العسل من حقي؟‏

ضحكت أمي من صميم قلبها ومازحتني:‏

-هداية لا ترى ولكنها تشم..‏

-يعني.. ماذا تقصدين؟‏

-لا تدخل عليها برائحتك النتنة هذه..‏

-أتريدين أن أغتسل؟ وبالأمس لدغني ثعبان!‏

-إذن كيف ستتزوج!! كل الذين سمعوا بنيتك.. استغربوا.. تساءلوا عن قدرتك ومدى تحمل جسمك..‏

-لا تخافي.. إنه ورم بسيط.. سيزول بعد يومين..‏

-إذن أجّل الزواج.. لا تظلم الفتاة المسكينة.. لا تذلها. إنها لا تستحق إلاّ كل خير..‏

-الحق معك يا أمي.. سأجلب لك ثلاث تنكات ماء، لتغسليني بيديك. بعد أن أمر على عمي حسن ليحلق رأسي ولحيتي.‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:29 pm

-6 -‏

بعد صلاة المغرب، التفت الملاّ نحوي، بينما كانت عيناي تسرحان في رحاب السماء، وسألني:‏

-أأنت خائف؟‏

-أنا!! ممن؟‏

-من سقوط السقف؟‏

شعرت بلذاعة السخرية وبنبرة الاستهزاء الحادة فانزعجت. ودون تردد أو حياء صحت به:‏

-أتسخر من أحلامي؟‏

هجس غضبي فشاء حفظ ماء وجهه. قال:‏

-استغفر اللّه.. رأيتك ساهماً فأحببت المزاح.. ومزاح المؤمن عبادة يا كاكاحمه.‏

تدخل عمي موضحاً ومهدئاً فأسكتني.‏

وتدريجياً تلاشى غضبي واندمجت في الحديث مع يحيى، والرجال الجالسين قربي. حتى باغتني الملاّ باقتراحه:‏

-هيّا.. توكلوا على اللّه.. لنذهب..‏

استغربت واستفهمت منه؟‏

-إلى أين ياحضرة الملاّ المحترم؟‏

-إلى بيت عمك مصطفى.. إنهم ينتظروننا..‏

كدت أستفسر منه عما يقصده لولا عمي حسن سارع يقول:‏

-حضرت اللازم وسأتي مع يحيى كشاهدين..‏

أنذاك تذكرت هدهد ومشروع زواجي فزحفت نحو الملاّ متلهفاً لتقديم هديتي:‏

-قبل ذهابنا، خذ استلم هذا المبلغ. إنه مساهمة بسيطة مني في تجديد المسجد..‏

مددت رزمة الدنانير إليه، أروم وضعها بيديه. فإذا به يرتد مذعوراً! ويلقيها أرضاً في حركة مستهجنة، تنم عن رفض وتوبيخ! ويدمدم بصوت مرتعش:‏

-أعوذ باللّه.. إنه مال حرام.. مغتصب.‏

إهانة بالغة غير متوقعة، صعقت لها. ارتعشت وساورني الجنون فصدرت عني كلمات سريعة، غاضبة. دلت على سخط وانزعاج..‏

وتحركت، كدت أطفر وأنشب أظافري في رقبة عطا اللّه، لولا أياد قوية شعرت بها تشدني، تحكم قبضاتها على كتفي وذراعي. وتعيدني إلى موضعي. وتمنعني من تحقيق غايتي.. ولو للحظات..‏

انفعلت ورحت أسبهم وابتعد الملاّ هلعاً. وصاح أكثر من شخص محذراً ومتوسلاً: وهدر في أذني صوت خشن يخالطه حزن:‏

-كفى.. اجلس ولا تتهور.. إنها ليلة زفافك.. أدرت رأسي في غضب فألفيت المختار مبتسماً كثعلب عجوز. ورأيت عمي متشبثاً بكتفي.. ثم راح يربت على كتفي في طيبة وحنان.‏

فتر انفعالي. وبما تبقى منه صرخت دون إرادة مني:‏

-لو لم تكن في المسجد للطمتك يا ملاّ عطا اللّه على رأسك وكسرته. منذ ثلاثين سنة والسلماني يغتصبنا بعلمك، ولم تحرم أمواله!‏

ضج المسجد. علا هرج ومرح بعد أن أنهيت كلامي.. فوجئ الملاّ فارتعش جسده. اكتسب وجهه الطويل اصفرار وهلع.وتلفت خجلاً إلى المصلين، حيث شخصت إليه الأنظار. وكأنه يستسمحهم ويطلب عونهم.‏

رأيتهم، يهزون رؤوسهم استغراباً، ويمطون شفاههم استهجاناً، فازددت ارتعاشاً..‏

-عيب، يا كاكاحمه، هذا الذي تفعله عيب..‏

نهرني يوسف ابن المخرف. وكان يجلس على بعد خطوات فرفست الأرض وصحت به:‏

-اخرس يا حقير..‏

وبحركة سريعة، حملت رزمة الدنانير وقذفتها في وجهه. فجأر وزمجر. وسمعت يحيى يوبخه ثم يزجره:‏

-اسكت.‏

وبينما التزم الجميع الصمت، وراحت العيون تتطلع إليّ، تحدق فيّ بذهول، تجمهر أكثر من عشرة رجال فوق رأسي، خشية " تهوري " .مما أشعرني بتعاظم الجو العدائي .‏

فنهضت محاولاً الخروج، يتلبسني البغض .‏

أفسح المتجمهرون الطريق لأمرّ، فأمسك الملاّ بساقي، ليسمع مني كلمة اعتذار ترد له هيبته .‏

ولم أبخل . صحت بأعلى صوتي، لأعيد الاعتبار لنفسي :‏

-اللّه مكنني من استرداد حقي . السلماني بعث أبنه ليسلمني المبلغ . وها هو بينكم فأسألوه .. وجئت أتبرع به لبناء المسجد ... ولم أهبه للملأ ليتزوج امرأة ثالثة .‏

ارتفع اللغط والصخب، وتعالت عبارات السخط والاستنكار . احمر وجه الملا، وانتصبت لحيته الحمراء . وعاد يتوسل :‏

-انتظر .. سأتي معك ...‏

-لا ... ابق في محلك يا عطا اللّه ..مثلك لا يصح أن يكون إماماً .. أنت تتشكك حتى في نفسك .. وتوالي السلماني ورهطه دون حق .. سأذهب بمفردي ... وإياك أن تأتي بعدي .... إياك .. ولعلمك، ألغيتك من بالي تماماً .‏

-لا .. يا بني .. لا .. أنت لم ...‏

لم أسمع بقية كلامه . خرجت وفي صدري يتأرجح لهيب الغيظ، وفي رأسي يدور صداع .‏

ابتعدت بضع خطى ثم استدرت والرعشة تسري في دمي .‏

تذكرت أمراً بالغ الأهمية ..‏

صوبت العيون أنظارها إليّ، وأنا أقف عند الباب وأصرخ :‏

-اسمع يا عطا، قررت إلغاء مساهمتي . لن أتبرع بشيء، فالذي يعوزه البيت يحرم على المسجد . كما أني فطرت عندك اليوم، صحن فول وبيض . وسأرد لك ثمنه .‏

قهقه المختار، وتعالى الصخب والضحك . لم أبال ... أسرعت خارجاً، فواجهني ظلام أول الليل الباهت ولفحني نسيم عليل، بارد ...‏

اندفعت إلى بيت عم مصطفى، تعصف بي حمى الرغبة، للقاء هدهد ورؤيتها .. وفي ذهني تختمر الخطط ويتفاقم ولعي الشديد بها . ويزداد تصميمي على تنفيذ ما قررته، أثناء رقادي على سرير المستشفى أو أثناء سيري الطويل في طريق العودة،‏

استقبلني شقيقها الصغير عرفان بالصياح :‏

-كاكا حمه وصل ... وصل ...‏

انحنيت لأقبّله فدفعني قائلاً :‏

-رح " بوس " هدهد .. رح ..‏

ضحكت .. وسمعت من يوبخه ..‏

-عرفان !! أدخل ..‏

شاهدت الخالة أمينة وبجوارها عم مصطفى، يقفان عند الباب، وعلى وجهيهما لاح الذهول .‏

أخذ الأب يدي بالرحاب . وأدخلني غرفة الضيوف الصغيرة . وتبعتنا زوجته ..‏

جلسنا على الأرض . حيث مدت ثلاثة فرش قطنية، وعدة مقاعد ومساند،على بساط صوفي مزركش جميل، فوق حصيرة نايلون . ومن السقف تدلى المصباح الزيتي معلقاً بنهاية سلك معدني طويل . وشرّعت النافذة الوحيدة على مصراعيها رغم النسيم البارد . وأزيحت جانباً الستارة السميكة، المطرزة حوافها بدقة ! فبانت السماء صافية وظهرت النجوم لامعة بوضوح كبير . فأنشددت إليها فرحاً مدهوشاً .‏

-أهلاً أبني ... أهلاً ..‏

قالت أمينة وهي تتربع أمامي مباشرة . بينما جلس الأب على يميني ...‏

رأيت الأحراج ينطبع على ملامحه وهو يسألني ....‏

-أين الملاّ والجماعة ؟‏

كانت الرعشة ما تزال متحكمة في مفاصلي، لذا كان صعباً عليّ أن اضبط نفسي وأهدأ خاصة بعد سماعي اسم الملاّ . اكتفيت برد مقتضب :‏

-لن يأتوا ...‏

لفه الاستغراب وانقبض قلب الأم . اصفر وجهها بشكل مقيت .‏

أدركت دون عناء، أنها فهمت من ردي شيئاً خاطئاً، لايطاق . مما استوجب تبديده دون تلكؤ :‏

-هدهد ستصبح زوجتي الليلة، إن شاء اللّه .‏

أشرقت ملامحها . بان على محياها الفرح . وهتفت بعينيها السوداوين المكحلتين .‏

-خجة، أعلمتنا بذلك . ونحن ننتظر قدوم الملا والرجال ...‏

تجاوزت أمينة الأربعين قبل خمس سنوات . لكن طولها لم يتجاوز المترين، وكتلتها اللحمية تخطت الثمانين كيلو غراماً . ومع ذلك لم تزل بنظر الجميع جميلة فاتنة، ساحرة . وربما أجمل نساء القرية على الاطلاق ..وعلى العكس منها كان مصطفى . نحيفاً كعود القصب . لا شعر له أمرد أملس، سوى لحية بيضاء تغطي ذقنه البارز . أظهرته بشعاً إلى حد مقبول في الرابعة والخمسين . وعلى هيئته استنسخ الملائكة بأمر اللّه ابنه غفران ! بينما أخذت هدهد صفات ومحاسن أمها . ولولا العمى الذي أصابها إثر جريمة الجنود لما سهل التمييز بينهما ...‏

-لم يأت الملّلا معك !‏

عاد الأب إلى إلحاحه . فأضجرني :‏

-قلت لك : إنه لن يأتي .‏

ذهل، واتسعت عيناه دهشة وحياء .‏

وازداد ذهولاً واستغراباً حين استرسل لساني :‏

-رفضت أن يعقد قراني على هدهد شخصاً مثله .‏

-لماذا ؟ !‏

نطقت أمينة بحيرة وهلع . وكرر مصطفى سؤالها .‏

-رفضت الملا أمام الجميع ... في المسجد .. لاثقة لي به ... لاثقة ..‏

-ولأنه يتعذر عليّ إيجاد البديل في هذه الليلة، جئت اقترح عليكما أن تساعداني ..‏

-بماذا يابني ؟‏

خيم السكون انتظاراً لجوابي .‏

بدا عم مصطفى أشبه بالخائف مني، وغير الواثق من تصرفاتي . فضحكت في سري .. مددت يدي إلى جيبي . تلمست الأوراق التي تخصه . داخلني الأمان لسلامة عقلي، ومتانة موقفي ...‏

تطلعت إلى وجه أمينة . فهالني رعبها وتخوفها المنتظر مما سأقوله . نقلت بصري صوب المصباح الزيتي، وأخيراً نحو السماء . لمحت النجوم المنتشرة وكأنها قلادة لؤلؤ على صدر زنجية !‏

حدقت في نجمة مضيئة، حسبتها قمراً صناعياً . وبقربها رأيت نجمة أخرى أكثر ضياءً . في كل منهما رأيت وجهاً مختلفاً .. شاهدت " سناء " باسمة مغتبطة، وعمتي " بتول " ساهمة حزينة .‏

وفجأة برزت بينهما " إلهام " بقامتها الرشيقة .. حركت ذراعي لأمسكها فمنعني " مجيد " ( وضع يده على رأسي وهمس : لا تتسرع .. تصرف بعقل ..دون تهور قلت له :‏

ألم تنصحني بعدم التردد ؟ ألم تقل لي : إذا أردت فعل شيء يا كاكا حمه فلا تتردد .. وإذا عزمت فتوكل، إن اللّه يحب المتوكلين .. فضحك وقال : صحيح، لكن لا تنس بقية الكلام .. لا تتردد عن فعل شيء جيد غضبت وصحت موبخاً :‏

كل أعمالي جيدة .. وما عاد أمامي خيار ... ما عدت أميز بين الصواب والخطأ ... فكلما مرت الأيام، كبرت آلامي، وكبرت معها المرارة التي أحسها في قلبي .. )‏

-أريد أن أتزوج الليلة . وغداً نكتب الكتاب .‏

-تتزوج الليلة !!‏

دمدمت أمينة ووضعت كفها الأيمن على فمها، دلالة الارتباك والحياء . وانتفض عم مصطفى . وعيناه تبرزان كعينيّ نسر . وتساءل بغيظ :‏

-بدون عقد أو شهود !!‏

هززت رأسي بالإيجاب . فتابع بشيء من الحدة :‏

-أأجننت !! أأنت في كامل قواك العقلية ؟‏

-نعم .. وهذا دليلي ...‏

أخرجت ما جلبته من الأوراق . وضعتها في كفيه، فبوغت .... تمعن فيها بعجب وهمهم :‏

-من أين حصلت عليها ؟ كيف ؟!‏

-ما هذه ؟‏

سألته أمينة فحار . تطلع إلينا مبهوراً . وأجبتها :‏

-إنه دليل على حسن تصرفي وسلامة نيتي ... جلبتها لك يا عم مصطفى لتمزقها ... وتنهي تحكم الجمولي فيك ...‏

-هل دفعت له ... ؟‏

لم أكن في حالة تسمح لي بالخضوع لتحقيق مطول . سحبتهامن بين أصابعه المرتعشة، ومزقتها أمام عينيه المبهورتين :‏

-أنت برئ الذمة ..حر من أي دين ...‏

وتوقعت أن يلين فإذا به يصيح :‏

-هذا لا يغير من الأمر شيئاً ... سنتكلم عنها فيما بعد ..‏

-هل توافق ؟‏

-لقد جننت حقاً ! واللّه سأذبحك وأذبح ابنتي قبل أن أدعكما تفعلان هذا العمل المنكر ....‏

عجبت، واعتراني الخجل والاضطراب . ثم الإحباط والانكسار وأخيراً الفزع لغضبه العارم .‏

تحركت مستديراً بجسمي كله صوبه، لأواجهه وأطلب منه توضيحاً، سبباً مقبولاً لرد فعله المتشنج .‏

فسمعت الخالة أمينة تترجاني برقة متناهية :‏

-يا بني، لا تشمت بنا الناس، ولا تكسر خاطر المسكينة .‏

أجهشت بالبكاء فتمزق فؤادي . أحسست بالخذلان واجتاحني شعور عارم من التعاطف والمودة، والألم .‏

وجعلت أنظر إليها بعين الرثاء والأسى . وناء قلبي بالحزن.‏

-هل أخطأت يا خالة ؟ هل ارتكبت عملاً مشيناً ...منكراً ؟‏

نبهيني من فضلك .. فما قصدت إلاّ الخير ... واللّه شاهدي .‏

-كل الخطأ ...‏

صرخ مصطفى وأكمل بحسرة :‏

-يا أسفي عليك .... أتدري ماذا يعني ؟‏

قدح شكه القاتل في رأسي فقاطعته باستياء :‏

-اسمع يا عم مصطفى .. أنا لا أعني ما فهمته .. ولا أقصده ..قلت لك بأن نيتي شريفة ... وأنت خير من يعرفني فلا تسيء بي الظن ... جئت خاطباً ... فلا تزد همومي ... فطن لحقيقة الوضع فهدأ واستفزني :‏

- أتستطيع طلب ذلك من شخص آخر غيري ؟‏

عرفت مرامه فاستنكرته وانبته :‏

-لِمَ تقلل من شأنك ؟ تهين نفسك وتهينني معك ! في المعسكر، سمعت بجماعة تتزوج أولاً ثم تعقد القران ... وسألت مجيداً فأكد لي ذلك .. قال : إن البربر وأغلب سكان شمال أفريقيا يفعلون ذلك أيضاً.‏

احتد وصاح :‏

-لا علاقة لنا بهم .. لا علاقة ...‏

-رغبت في الزواج من هدهد وسأتزوجها .. وثق إنني لو رغبت في امرأة أخرى .. في أية فتاة من قريتنا ... لما ترددت أبداً في الزواج منها ... وفي خطفها وكسر رأس أبيها إذا رفض، فزع مصطفى ... أحرجه كلامي . عض شفتيه كي لا ينجرف بتياري . تبادل مع أمينة نظرات قلقة قبل أن تتمتم :‏

-نحن لم نرفض ...‏

-أعرف ذلك ..أعرف يا خالة .. اعتقد أنني تسرعت في طلبي ... أخطأت فسامحوني .. اعذروني .. اقترحوا عليّ ما يجب أن أفعله ...نبهوني .. وانصحوني ... تبسم عم مصطفى استرد عافيته وأعلن :‏

-غداً نستدعي الشيخ علي من أربيل ...‏

-على بركة اللّه ... اتفقنا .. سآتي صباحاً .‏

اعتذرت مرة أخرى عما قلته . ونهضت، فتوسلا لإبقائي على العشاء فرفضت ....‏

لحق بي عم مصطفى إلى خارج البيت يطلب إيضاحاً،عن الصكوك وسندات الدين والفائدة :‏

-من أين حصلت عليها ؟ كيف وصلت إليك ؟ الجمولي ، ماذا سأقول له ؟ هل أعطيته حقه ؟ هل ...‏

-اسمع يا عم مصطفى، الأوراق مزقت والجمولي المرابي ماعاد يخيفك أو يهددك .. فلا تذكرها ثانية .. لا تأت على سيرتها لأحد مهما كان .. حتى لخالتي أمينة ... إياك ...إياك .. وإذا سألك .. قل له أنك سددت ما بذمتك كاملاً‏

تسمر واقفا في منتصف الطريق . ومضيت إلى البيت مستاءً مقهوراً .‏

حدثت أمي -المنهمكة في رص الحاجات التي اشترتها على رفوف المطبخ -بما جرى، فوبختني على سوء تصرفي، ورعونتي التي لا تقل عن رعونة مجنون ..!‏

لم أناقشها . لم أكن في حالة تسمح لي بذلك . تركتها وتوجهت إلى غرفتي‏

وضعت رأسي على الوسادة .. حاولت أن أنام فإذا بي أنهض على حين غرة ... !‏

( برز لي مجيد . بوجهه العريض الضاحك وعينيه السوداوين قال لي : -لا تنسى وصيتي .. " النورة " ستعطيك مظهراً جذاباً وتريحك .‏

قلت : -ولكن هدهد بلا عينين !‏

قال : -لا تكن غبياً إلى هذه الدرجة يا كاكا حمه . أصابع الأعمى هي عيونه . بنانها تتحسس أفضل منك . ستشمئز وتنفر منك إذا بقيت بصوفك.‏

غضبت وقلت : -أنا لست خروفاً !‏

ضحك وقال : -استغفر اللّه يا كاكا حمه ... من قال ذلك ؟‏

أتظنني أبله لا أميز الخروف عن الطلي ... !‏

تغاضيت عن سخرتيه وقلت : -أتريد أن تكرر ألاعيبك معي ؟‏

بسببك كاد عريفي إسماعيل يثكل نفسه من الغيظ .. قهقه حتى دمعت عيناه ثم أقسم قائلاً :‏

-أتظنني أعاملك مثلما أعامل العريف مونرو ؟ لا .. يا كاكاحمة .. لا .. ثق باللّه العلي العظيم أنني أعزك ... فأنت أخي الطيب وصديقي المفضل .. ثم أنني لم أغدر به ولم أقصد أذيته .. وعندما نصحته بوضع البودرة لم أكن أهدف إلا الخير ... لكنه " جحش " لم يستمع للنصيحة جيداً ... لذا احترق جلده .. وضيع فرصة العمر ولقاء حبيبته مارلين مونرو ..)‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:30 pm

-7 -‏

على مائدة الفطور الزاخرة، الغنية بالبيض والزبدة والمربى والجبن والحليب، قالت أمي دون مقدمات :‏

-أوصيت على عشرين دجاجة .... سأملأ بها الأقفاص، بناء على رغبتك‏

-حسناً تفعلين ..وسأشتري لك ثلاث معزات .‏

دهشت، وعبرت عن ذلك بلسان خائف :‏

-من سيتولى رعايتها وحلبها ؟‏

-سيرعاها موسى وتحلبها هدهد ..‏

اطمأنت وتحمست :‏

-سيفيدنا حليبها .. سيغنينا عن شرائه .. وما سيفيض عندنا نبيعه ..‏

-لا .. سنهبه إلى بيت عمي مصطفى، إلى حين عودة بقراته . لم تجادل . أبدت موافقتها واقتناعها :‏

-كما تريد يا بني .. إنها فكرة جيدة ..‏

-هيّا بنا إليهم ... علينا تهيئة كافة المستلزمات ... اعترضت بإشارة من يدها؛ واحتجت :‏

-دعني أكمل فطوري .. الوقت مازال مبكراً ...‏

-أنت تثأرين من جوع قديم يا خجة ! تأكلين منذ ساعة ولم تشبعي !‏

مازحتها فأبدت مخاوفها :‏

-وأنت لم تمد يدك بعد !‏

-أنا أكلت وشعبت .. والحمد للّه ...‏

-أتظنني غافلة عنك .. راقبتك منذ يومين .. وأنت لست على ما يرام .. على غير عاداتك وطباعك ... ولا تنكر .. فقلبي دليلي .... ربع ما كنت تأكله سابقاً لا يدخل معدتك ! وبشيرة أخبرتني بأنها رأتك تتقيأ ما أكلته عندهم !‏

-أكلت البيض البارحة ..‏

-عند الملا ! أخبرتني رباب إنك أكلت نصف البيضة ! ولم تذق الفول ...‏

مسني الندم على ذهابي ومشاركتهما في الفطور استكرهت دناءه نفسي واحتقرت رباب‏

-ما أدق أخبارها ! وما أذلها ! مراقبة الضّيف والتدقيق فيما أكل وشرب، عيب . ... عيب .. وعار ..‏

-لا يا بني .. لا .. رباب بنت ناس . وطيبة النفس .‏

-سأدفع لهما ثمن ما أكلت .. وعدت الملا بذلك ... ثم أني آخذ كفايتي من الأكل ...‏

أوضحت لها ودخلت غرفتي ..‏

وقفت أمام المرآة . ألقيت نظرة شاملة على جسدي تطلعت إلى وجهي . وعاينت موضع العضة . كان الورم يخف تدريجياً ..‏

جلست على السرير أراجع ما نفذته، وما يتحتم عليّ تنفيذه . فوجدت أمامي قائمة طويلة من المشاريع . وطرحت أفكاراً عديدة جديرة بالاهتمام .. سألت اللّه أن يعينني على إنجازها، وأنا اتجه إلى الحديقة .‏

قلبت الأرض تمهيداً لشتلها بالورود . وغسلت الحظيرة غسلاً . ثم نظفت الأقفاص وجددت شباكها المعدنية .. وحين انتهيت كان النهار قد انتصف، وارتفع آذان الظهر ...‏

أعدت رغبتي في الذهاب لكن أمي راوغت وماطلت، حتى العصر .. فما أن حانت الرابعة حتى أبدت حماساً ... !‏

قدتها إلى بيت عم مصطفى . فبوغتّ بأن هناك من سبقني بالقدوم ! وجدت الملاّ عطا اللّه، وعبد اللّه المختار وعمي حسن وزوج عمتي الحاج صالح، ويحيى مع إخويه يوسف وموسى، ونصار ينتظرونني !‏

في الحال ربطت بين مماطلة أمي وتعمدها التأخير، وبين حضور هؤلاء وشممت رائحة اتفاق مسبق،جرى خلف ظهري ! لم أبال وراحت عينياي تفتشان عبثاً عن عيسى .. بأمل رؤيته بينهم .. علّه عاد وحضر معهم .. !‏

رحبوا بي، سألوني عن صحتي وأقنعوني بإتمام العقد على يد الملّا . بعد اعتذاره لي عما بدر منه في الليلة الفائتة .‏

وقبّل رأسي بمحبة مما أشعرني بالخجل . فأعلنت موافقتي .‏

-حسناً يا حضرة الملا . ولكني أصر على سحب اقتراحي .. قررت أن احتفظ بأموالي .. لمشاريع أخرى .... لن أمنحك فلساً واحداً ...‏

-الدنانير عندي يا كاكا حمه وسأعيدها إليك ..‏

-عندك !! هل تمزح ؟ من أتى بها إليك ؟ إنها في غرفتي ! نظر إليّ الجميع مدهوشين وضحك الملا قائلاً :‏

-تركتها أنت أمس في المسجد ..‏

-أنا ! كيف ؟ ومتى ؟‏

-ألم ترمها في وجهي قبل خروجك غاضباً ؟!‏

سخر مني يوسف فتذكرت كل ماحصل ! ضحكت فضحكوا . وبين زغاريد النسوة وتكبير الرجال، جلبوا هدهد لتحضر عقد القران .‏

جاءت تتعثر مغمورة بنشوة عارمة، مصحوبة بأمها وأختي بشيرة . وخلفهن تراءى لي وجه افتخار !‏

وعلى الرغم من ظهور فرحة هدهد بوضوح، وسعادتها، انتفض قلبي غماً، امتعضت بشدة .‏

آلمني رؤيتها مرتدية ثوب الخانم القديم . أحسست بسكاكين حادة تمزق أحشائي . أشد فتكاً من كأس العميد، وأكثر لؤماً .. حز في نفسي منظرها .. آلمني جداً فبكيت ...‏

سألوني والدهشة تعتريهم، عن السبب الذي دفعني إلى البكاء .‏

فأجبتهم : إنها دموع الفرح .‏

ضحكوا ومازحوني، وخطر على بالي خاطر ! وصممت على تنفيذه بعد انتهاء الحفل ... وازددت تصميماً وأنا أتطلع إليها مبهوراً متحسراً .‏

ركزت نظراتي فوق أناملها وهي تحاول تسوية الثوب العريض أنظر إلى وجهها المدور وأسأل اللّه أن يغفر لي ذنبي هذا .. أحدق مدهوشاً في عينيها المغلقتين فتملأني الغبطة، ويعتريني الندم ويتلبسني تأنيب الضمير ... ! سحرتني إشراقة الخدين الحمراوين، المرصعين بغمازتين، كإشراقة تفاحتين ناضجتين . بهرتني بشرتها البيضاء، وشعرها الأصفر المنسرح الطويل . وانشددت إلى الحاجبين الغليظين والشفتين القرمزيتين، فاشتهيتها .. تمنيت احتضانها .. تقبيلها .. زرع ابني في أحشائها اليوم قبل الغد .. فمنعني الخجل المرتسم على وجنتيها .. والحياء الذي ركبها ...‏

بكيت من جديد ، ليس من فرحي، بل لنذالتي . لأني سأظلم هذه المسكينة التي لا أستحق ظفراً من أظافرها ... أظلمها متعمداً ..عن قصد ... ودراية ....‏

بين ضحكات أمي ونكات بشيرة وتعليقات افتخار، وتمتمات الملا وتسبيحاته، وهمسات العجائز وصلوات الخالة أمينة تم العقد ...‏

تم العقد ووزع نصار شراب التوت والليمون، على المدعوين ... بكؤوس زجاجية نظيفة جلبها معه ... تناولت كأسي . قربته من شفتيّ فبرز " العميد " أمامي ! تمثل بشخصه يكركر ضاحكاً ! فركبني الذعر، تحركت للإمساك به فقفز هارباً ! حاولت اللحاق به ... كدت أنهض .. أقفز صوبه وأصرخ . لكن صوتي بحّ فجأة وشددت بقوة إلى الكرسي .. وصحوت من غفوتي على إثر سقوط الكأس من يدي ... !‏

-انكسر الشر انكسر الشر ...‏

صاح أكثر من شخص .. وأسرعت بشيرة تنظف المكان . أصرّ المختار على دعوتنا جميعاً إلى العشاء في بيته، فرفضت :‏

-شكراً لك ياحضرة المختار ...شكراً .. أنت بحاجة لمن يعينك ...‏

-لا تخش عليّ .. ستطبخ لنا افتخار وبقية البنات ...‏

-إذن أرجو تأجيل ذلك إلى يوم الزواج ... غداً .... إن شاء اللّه بوغتوا لهذا التحول " تأجيل الزواج " فشرحت لهم :‏

-زوجتي لن تقل شرفاً وكرامة عن أية عروس في قريتنا .‏

والواجب يقتضي الحفاظ على علو منزلتها ورفعتها . لذا لا يجوز التقليل من شأنها ولا يمكنني الموافقة على إكمال مراسيم الزواج دون تجهيز كامل ...‏

-ما الأمر يا كاكا حمه ؟!‏

استفسر عم مصطفى فأردفت :‏

-أعدوا للخانم ملابسها وأشكروها ...‏

-لماذا ؟! ماذا جرى ؟‏

هتفت أمي بخوف فقلت بحزم :‏

-سننزل الساعة إلى المدينة، لنشتري كل ما يلزم هدهد من ملابس ومصوغات وحاجات أخري .. جديدة ..‏

-بارك اللّه بك يا كاكاحمه .. اللّه يفتح عليك ... صاح عمي حسن مستحسناً . وتلته بشيرة ثم تعالت كلمات الثناء والإعجاب والتقدير .‏

واعترض عم مصطفى بطيبة :‏

-لا تبذر مالك يا بني .. يكفينا هذا ..‏

كدت أرد فتدخلت أمي بحدة :‏

-لا يا مصطفى ... هداية ابنتنا الحبيبة . وكاكا حمة على حق .. ولقد رزقه اللّه بسببها .. سنشتري لها كل ما ترغب وسنقيم حفلاً لن ينسى .. أنه عرس أبني الحبيب .‏

-صحيح يا أمي . هداية تستحق كل خير .. سنقيم الحفلة غداً ... حفلة كبرى .. ياجماعة، سنقيمها غداً ....‏

صدح صوت بشيرة المبتهج . وهتف نصار بفرح :‏

-سأزين المقهى والساحة المقابلة ...‏

-بالرفاء والبنين .. بالرفاء والبنين ..‏

ارتفعت الزغاريد بعد كلام عمي وتهانيه . وشدّ الرجال على يدي وهم ينصرفون تباعاً . ولحق بهم عم مصطفى . سمعتهم يتهامسون .. وحدَست أنهم يتفقون . وحين ألححت على أمينة وأمي بضرورة التهيؤ، للنزول إلى المدينة . تكلمت هدهد لأول مرة وهي تبتسم بملء شدقيها.ويدها تستعين بحركة معبرة :‏

-كاكاحمة، أرجوك .. اصرف النظر عن كل شيء ..هذه الأشياء التي تريد شراءها لا تجلب السعادة . لا أريد شيئاً سوى محبتك لي وإخلاصك ...‏

يمتلئ صدري بهجة وتدمع عيناي من فرط السرور ... أهرع بأخذ يدها و أصارحها :‏

-يا حبيبتي، أصبحت زوجتي بشرع اللّه . سأهبك عمري فما قيمة هذه الأشياء ‍ وبالأمس رزقني اللّه من أجلك، ببركاته ..‏

-ما قالته هداية عين العقل يا كا كاحمه . جلب الرجال هداياهم وسيجلبون المزيد، وهو ما يكفينا وزيادة ... أيدتها أمها . فأعلنت بشيرة رفضي على لسانها‏

-مشكورين يا خالة أمينة ... الهدايا لن تحول بيننا وبين إداء الواجب ... حق هداية لا يجوز التفريط به يا خالة أمينة .. وما سنشتريه لن يكلفنا بالتأكيد أكثر مما تقدر الحبيبة هداية ... زوجة أخي ...‏

-هداياي سنختارها معاً... أنا وهدهد ...‏

اقترحت فإذا بافتخار تحتج :‏

-لا ... ياأخي .. لا .. لن نسمح لكما ..لن ندعكما تنزلان أنت وهداية أبداً ...‏

أدهشني اقتراحها وقبل أن أبدي رأياً، رأيتها تغمز بعينيها لتضمن موافقتي . واستطردت :‏

-أولاً، اليوم عرسكما ..والتعب مرفوض .. كما أن النزول إلى المدينة ليس سهلاً ..‏

-كلام العقلاء ..‏

أفنت هاجر زوجة عمي حسن وأكملت :‏

-أمسح وجهك بالرحمن ودع الأمر لغيرك يا كاكا حمه .‏

-ماذا تقصدين ؟‏

سألتها فتطوعت بشيرة للرد :‏

-غداً صباحاً سأخذ أمي وخالتي أمينة وافتخار، وتنزل مع يحيى . لنشتري كل ما تريده يا كاكاحمه .‏

رمقتني افتخار بعين منكسرة، وإن تظاهرت بالفرح واللامبالاة . فاشتعلت الذاكرة .. شعرت بمعاناتها وعدت أسبر هواجسي .. وصرخت في أعماقي .. يا مخلف البنات، حامل الهم للممات .‏

-وكل ما تطلبه هداية وخالتي أمينة .‏

قلت معقباً فهبت الخالة أمينة قائلة :‏

-أنا لا أطلب شيئاً يا ابني .. لا أطلب شيئاً .. هداية ابنتكم .. خذوها بثوبها‏

وهمست هدهد برقة ممزوجة بخجل :‏

-وأنا لا أطلب شيئاً ....‏

اقتنعت بخطة افتخار واقتراح بشيرة، فوافقت . وأنا على يقين إن المال لا يتكلم فحسب بل يهدر ...‏

-لن نتأخر ..سنشتري ما يفيد وينفع، ونرجع بسرعة . حسمت افتخار الأمر . واستسلمت الخالة أمينة :‏

-وعند المساء سنزفها إليك بعون اللّه ..‏

-فكن مستعداً ...‍‏

ضحكت النسوة لمزحة افتخار . وركب الحياء هدهد .‏

( مثلما ركب عريفي إسماعيل -حين قال له مجيد مداعباً :‏

-أكيد أنك أكثرت من تقليب النورة عند العمل فتسبب بحرق الجلد .. وفاتني أن أخبرك .. نسيت واللّه .. إن كثرة تقليب العجينة أثناء العمل، أو عند وضعها على الجلد، تزيد حرارتها . ويشتد لهيبها .‏

-والحل ‍ بماذا تنصحني ؟‏

-ليس هناك من وصفة غير ما ذكرتها لك يا عريفي..‏

-نسيتها ..‏

-خذ قلماً وورقة وأكتبها، لأني لن أعيدها عليك ثانية ..‏

-أمرك .. تكلم بسرعة .. تكلم ..‏

-ياعريفي .. اكتب .. اكتب .... يؤخذ عدس مقشر ..‏

يسحق ناعماً ويداف به ماء ورد خالص . ويطلى به الموضع الذي أثرت فيه النورة .. هذا كل شيء .. أمض بسرعة، أعملها وتعال .... فلديّ أخبار جديدة مؤكدة عن فقيدة الفن وملكة الإغراء الأولى .‏

-صحيح .. باللّه عليك حدثني ...‏

-أهذا وقته ‍ رح الآن .. رح .‏

-أعطني رؤوس أقلام .. أرجوك ...‏

-ثبت يا عريفي، وبالدليل القاطع إنها اغتيلت على أيدي رجال المخابرات الأمريكية .. ولم تنتحر كما أشيع ...‏

-صحيح ...‍ حدثني بالمزيد .. من أين حصلت ..‏

-سأحدثك فيما بعد ... الآن اهتم بمصيبتك .. )‏

عدنا إلى البيت في حدود العاشرة ليلاً . فوجدنا مفاجأة مبهرة بانتظارنا . أذهلت أمي وأججت غضبها.‏

كانت أبواب البيت والغرف والدواليب مفتوحة على مصراعيها وحاجاتنا مبعثرة بصورة مخزية، وعبثية ‍ مما يدل على أن يداً خبيثة فتشت كل شيء وفي كل مكان .. وأن الزائر الذي استغل خروجنا كان مستعجلاً .. حزرت السبب فضحكت في سري ورثيت له لأنه خرج خائباً دون أن يجدما يبتغيه ‍‏

-ما الذي حصل ؟‍ ! من فعل هذا ؟! من ؟!‏

-لا تهتمي، زارنا زوج أختك المحترم، أو أحد كلابه بالتأكيد .‏

-ولماذا فعل هذا ؟ لماذا ؟‏

-ظن أنه سيجد أوراقه ... الغبي ... تصورني غبياً مثله لأخفيها هنا .. نسي أنني كاكا حمه .. توقعت هذه الزيارة منذ أخذت الملف ..فاته أنني أخذته معي إلى بيت عم مصطفى .. وبينما خرجت أمي تعلن ما حصل، رحت أعيد ترتيب كل شيء مستعرضاً أثناء ذلك أسماء الذين يحتمل أن يكلفهم السلماني أو الجمولي باقتحام بيتي لاستعادة الملف، وأفكر بطريقة الانتقام ....‏

جاء الرجال وعلى رأسهم المختار .... أبدوا دهشتهم واقتراحاتهم .‏

-سأقيم القرية واقعدها .. هذه سابقة خطيرة .‏

-لا حاجة يا مختار .. لا أريد مشاكل ... أعدك بأن هذا لن يتكرر -أعدك.‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:31 pm

- 8 -‏

بعد ظهر اليوم الثاني، شعرت وأنا أغط في النوم بأن هناك من ينادي . في الوقت الذي تضرب جزمته قائمة السرير.‏

استيقظت فواجهني يحيى ساخراً :‏

-مساء الخير يا عريس‏

مساء الخير !! أتمزح ؟‏

-اسم اللّه عليك ... الساعة الآن الثانية والنصف ...‏

-هل ...‏

-نعم . ذهبنا وعدنا وأنت في نوم العافية . لم نشأ إزعاجك .‏

-وأين أمي ؟‏

-في بيت العروس . أوصتني بإيقاظك لتفطر .. العفو لتتغذى جلبنا لك كباب أربيل كي تتقوى .. ولتبدل لها هذه ... وضع على الفراش ثلاث علب كارتونية . فسألته :‏

-ما هذه ؟‏

-أقفال، أوصتني عمتي بشرائها للدولاب ولبابي غرفتها والدار .‏

-لماذا ؟‏

-لماذا ؟ !‏

-أرعبها حادث أمس وعزز مخاوفها .. أصبحتم أغنياء .. والمال السائب يعلم السرقة .. والحرامي سيعاود هجومه بالتأكيد .‏

-ابد لها أنت .. ولا تزعجني .‏

لم استمع لتخرصاته ومزاحه . تركت السرير ورحت أغير ملابسي واغتسل وآكل .. ثم أتلهى مع الدجاج . إذ أفرحني منظر الأقفاص المكتظة بها .‏

-لا تدري كم اتعبتني عمتي، غفر اللّه لها ! ما أن رأت أقفاص الدجاج في أربيل حتى طارت فرحاً ... اشترت ثلاثين دجاجة ! وحملتها أنا مضطراً .. وأجري على اللّه .‏

قال يحيى بتذمر ومضى .‏

جاءت أمي وبشيرة وبعدهما جلب سلطان ما أوصيته من الورود. مما أوجب عليّ زرعها وتنظيمها .. وأخيراً دخلت الحمام لأغتسل وأعطر جسدي المتورم، المتسمم وتلك الليلة ضجت القرية، بقرع الطبول ونقر الدفوف وعزف المزامير، ودبكات الرجال ورقص النسوة، وغناء الصبايا وفرح الأطفال . وتطايرت في الجو أسراب الزغاريد .‏

بقيت في البيت بانتظار مجيء الزفة، يتملكني الفرح وعذاب الضمير ، مترقباً أن تأتي هدهد في موكب مهيب . مصحوبة بأمها وخالاتها .‏

انتظرت حتى جزعت . وطال انتظاري وكدت أعود إلى الحديقة التي أخذت مني ثلاث ساعات بالتمام .. لولا الضيوف ...‏

( لا أدري كيف برز العريف مونرو أمامي فجأة كالحلم، انتصب بشاربيه وعينيه الكبيرتين ‍ اللتين لا مثيل لهما في معسكر الغزلاني، ولا في الموصل كلها .‏

جاء على غير العادة . فسد بقامته المديدة فتحة باب المهجع العريضة . فحجب أشعة شمس الظهيرة . المتسللة إلى أسرتنا . وحل محلها ظله العملاق، الممتد على طول الأرض الإسمنتية .‏

كنا عائدين تواً من ساحة التدريب . مستلقين على فرشنا، منهكين . نثرثر ونمزح . نستمع لقفشات مجيد ولنكاته، واصطياده البارع لسقطات الجنود، وأخطائهم وعثراتهم أثناء أداء التمارين، زلات ألسنتهم .‏

كان لسانه السليط، الطليق يروي دون جزع، حين بوغتنا به يتلجلج .. ويتوقف . لأن حركة عند الباب أوحت بدخول أحد ..‍‍!‏

رفعنا رؤوسنا لنتبين هويته، ونحن نتساءل من يأتينا في هذا الوقت ؟ وقت راحتنا ..‏

لم نميز العريف في البداية . ودفعنا التعب و الدموع -التي تملأ العيون بسبب سخرية مجيد -إلى الظن، بأنه شخص أخر . لكن سرعان ما تكشفت الحقيقة . إذا تقدم ببطء، وسبقه ظله مهرولاً ! تحرك على عجل فتسلق الجدار المقابل واعتلى جزءاً من السقف الواطئ .‏

اقترب الجسد الطويل، الخشن منا، فتوضحت ملامحه . رأيناه فخفقت قلوبنا، وانتفضنا دفعة واحدة . قفزنا إثر صرخة طويلة مدوية أطلقها مجيد :‏

-حضرة العر .. يـ ... ف .. إسمـ ... ا ... عيـ .. ل ..نهوض .‏

تساءلنا من جديد وبحرقة " ماذا جاء يفعل ... ؟ "‏

وقف في وسط المهجع كأسد بابل شامخاً، مهيباً .‏

ولأنه كان دوماً سيفاً مصلتاً على رقابنا، ارتعشت أطرافنا .‏

في البدء، راز مجيد بنظرة ماكرة، صارمة . بدا واثقاً أن هذا المكلف المشاكس، يسخر منه . وما صرخته إلاّ دليل ساطع . لكنه تحاشى الاصطدام معه، خشية من مكيدة أخرى ... يوقعه بها ... وما أكثر مكائده ... !‏

تطلع إلينا بعينيه الواسعتين فأرهبنا . حبسنا أنفاسنا بانتظار أن يعلن سبب قدومه . وكما تعودنا فهو أمر لا يسر بأي حال من الأحوال ...‏

وتحت دهشة الجميع احتواني بنظراته . أشعرني بأن لا يرى سواي في المهجع، فأرهبني . ولأنني أعرف فيه حمق الصلف والقساوة فزاد ارتعاش أطرافي .‏

وعلى غير توقع مد كفه العريضة، وبسط راحته باتجاهي . وأمرني بصوته الغليظ !‏

-احزم أمتعتك يا كاكاحمه، واتبعني .‏

لوهلة، خيل إليّ أنه أخطأ التشخيص . أهتز بدني هلعاً ثم جمدت في مكاني مذعوراً كمن يضبط بجرم ...‏

ولأني الجندي الوحيد "العاقل " بين الأربعين، لبثت صامتاً، ولم أسأله عما يعينه، وماذا يريد مني . وإن أمتلأت نفسي بالهواجس والظنون . وتطلعت العيون صوب العريف ليقول كلمة أخرى يصحح بها خطأه .‏

-ماذا فعل يا حضرة العريف المحترم ؟ كاكا حمه إنسان طيب وجندي مثالي ..!‏

تطوع مجيد للاستفسار نيابة عن الجميع . لم يجبه العريف . استدار عائداً من حيث أتى يتبعه ظله .‏



وراحت جزمته تدق بعنف على طبلتي أذنيّ، وليس على الأرض الإسمنتية!‏

وتفاقم ذعري حين همس مجيد مداعباً :‏

-جاءك الموت يا تارك الصلاة .‏

ومن آخر القاعة جاءني كلام مبهم وضحكة مريرة . وسمعت كلمات تخدش المشاعر والحياء !‏

-أنا خائف يا مجيد.‏

-هل ارتكبت شيئاً من وراء ظهري، ولم تخبرني به ؟‏

اعرفك، تتظاهر بالسذاجة لكنك من نسل إبليس ..‏

-لا .. واللّه ..‏

-خلاص .. صدقت ..إذن لا تخف .. توكل على اللّه وامض خلفه .. اجر قبل أن يعود ويعاقبك ابن الحرام .. بسبب التأخير ..‏

-تعال معي ...‏

-سآتي .. لأعرف السبب .. تشجع يا كاكا حمه .. تشجع‏

-تشجعت ...‏

ساعدني مجيد في لمّ " يطغى "، وحزم أمتعتي القليلة . وحملها معي .‏

-لماذا طلبني ؟ أنا بالذات !‏

سالته بخوف فحثني :‏

-راجع ما عملته منذ استيقاظك صباحاً حتى عودتنا إلى المهجع -صحيح أنني لم أفارقك لحظة ... لكن الشيطان مازال حياً يرزق ... ومن يدري فربما أظلمَ عينيّ فلم أره حين قادك إلى وكره .. راجع .. راجع عقلك ..‏

-سأراجع ... سأراجع ..‏

راجعت عقلي طوال الطريق إلى مكتب العريف، فلم أجد ما يستوجب غضبه مني . خاصة وهو يعرفني، يعرفني جيداً ولطالما نصحني بألا أساير " ابن الكلب مجيد هذا "‏

-أنا خائف يا مجيد ..‏

-لا أخفي عليك يا كاكا حمه . فأنا خائف مثلك . لست مرتاحاً من هذه الدعوة المفاجئة . وقلبي ينغزني لأن التاسع عشر من آب يوم نحس وشؤم . فيه أعدم الشاعر لوركا . أجبروه على حفر قبره ليدفنوه فيه ! فعلى ماذا سيجبرونك؟‏

-لا أدري ...‏

وصلنا المكتب . ألقينا حملنا، وكدت ألج فأوقفني مجيد. رتب قيافتي وأوصاني :‏

-لا تنسى التحية ... إياك .. يجب أن تؤديها لعريفك أبو الحق .. لقد حذرك .. لا تنسى ....‏

-لن أنسى .‏

وعندئذ دفعني، أدخلني عنوة . وبقي هو قرب أمتعتي واجهني العريف فارتبكت . لكني أديت التحية كما يجب ووفق تعاليم الانضباط العسكري . ثم وقفت بالاستعداد الكامل وحسب ما تقتضيه الأعراف قدمت اسمي ورتبتي ووحدتي . مما أفرح العريف فقال :‏

-أحسنت يا كاكا حمه .. لقد نجح مجيد في تعليمك .‏

-منذ شهر وأنا أتدرب عليها ... على إداء التحية العسكرية .‏

-عال ...عال ..والآن اسمع ... أنت جندي جيد، وأخلاقك حميدة .. لذا تقرر نقلك من المعسكر.‏

-وإلى أين سأذهب ؟‏

-إلى بيت العقيد رأفت، في قلب الموصل . اختارك لتكون مراسلاً له . سيأخذك السائق بعد قليل ... لقد زكيتك بنفسي . .‏

لم أتفوه بكلمة، فاجأني الخبر. لم أفرح كما اعتقد ولم أشكره كما أراد ..زاغ بصري في أرجاء الغرفة بحثاً عن صور معبودته ودهشت لأني لم أر شيئاً مما أخبرني به الجنود !‏

-إنها فرصتك .. فما رأيك ؟‏

انتبهت لسؤاله فصارحته :‏

-لست مرتاحاً وقلبي ينغزني و هذا يوم نحس وشؤم، فيه أعدم الشاعر لوركا ...‏

دهش العريف فوقف على قدميه مستفسراً :‏

-من هو هذا " اللوكا " ؟!‏

-لا أعرف ...‏

-لا تعرف !! هذا كلام أكبر من رأسك ... ألم أقل لك لا تساير ابن الكلب هذا .. هيّا اخرج ... سلم حاجاتك للمخزن وانتظر السيارة .. هيّا، قال لوكا قال استدرت لأخرج فذكرني :‏

-التحية .. أدِ التحية يا كاكا حمه !!‏

نسيت من جديد ! تبسمت له معتذراً وقلت :‏

-السلام عليكم ..‏

فإذا به يزعق كالمجنون :‏

-التحية !!أدّ التحية العسكرية وأخرج ..ليأتني مجيد فوراً ... أديتها على عجل وخوف، وخرجت ...‏

استقبلني مجيد . نقلت له رغبة العريف فزفر :‏

-ليذهب إلى الجحيم . إنه يريد سماع أخبار محبوبته الراحلة . بشرني أنت، طمئني، ماذا يريدون منك ؟ أخبرته فصاح عجباً :‏

-العقيد رأفت !! احذر يا كاكا حمه . فهذا حلو اللسان كافر القلب.. قائل ...‏

-وماذا سأفعل ؟ هل أرفض ؟‏

-لا .. اسمعني جيداً يا كاكاحمه، إنها حقاً فرصتك التأريخية كما قال أبو الحق العزيز ...‏

-لم افهم ..‏

-عريفي مونرو لم يخترك اعتباطاً . إنه يبعثك كرأس حربة . يريد أن ينتقم بك من العقيد . لا تستغرب، إنها قاعدة معروفة هنا ومثبته . فمن يختاره الضابط بنفسه كمراسل، فلا غبار عليه . أما اختيار العريف فألف علامة استفهام تثار حوله ....‏

ظل يمازحني بكلمات بذيئة، ويحثني على ارتكاب المنكر . وأنا أسلم للمخزن كل ما استلمته سابقاً، وبعد خروجنا، ولما وبخته أخذ يلح بخبث ويشرح لي . وتملصت منه بعد جهد .. ونحن نصل بوابة المعسكر حيث وجدت السيارة بانتظاري‏

-واللّه غليت قلبي . فلا تنس أن تطمئننا . ابعث لي أخبارك بين فترة وأخرى، بيد السائق ...‏

ودعني ...فصعدت دون كلام بجوار السائق .‏

الذي استقبلني بغيظ، معاتباً :‏

-السلام للّه يا حجي كاكا !‏

وحين لم أرد أسمعني كلاماً خشناً، لم أسكت عنه . أخرسته بحدة فازداد غيظاً وامتعاضاً .‏

-ما بك ؟ وجهك وجه إبليس ! ابتسم للدنيا يا حجي كاكا ... ابتسم .. واضحك لها تضحك لك .... أنت في الطريق إلى الجنة ... ذاهب أنت إلى بيت العقيد ... لا إلى غرفة الإعدام !! إنهم لم يختاروك عبثاً ... مبروك .. ستشبع " حلاوة " وتتخم " باللوز " .. مبروك لنا . سيتحسن نسل جيشنا المقدام !‏

أغضبني فحاولت ردعه . وبخني مدعياً المزاح ... ثم راح يغني أغنية فاحشة . وبقيت ساكناً، ساهماً .‏

عند باب البيت العامر أنزلني، وراح يسبني . لم يتح لي فرصة الانقضاض عليه، وتلقينه الدرس الذي يستحق .. انطلق بسيارته هارباً ..!‏

استقبلني عامل الحديقة ببرود . وهو جندي من الجنوب . ألتقيته في المعسكر مرات عديدة . وفي الموصل مرة، حين نزلت مع مجيد لشراء بعض الكتب ...‏

أخذ متاعي القليل وأدخلني إلى الصالون . حيث كانت " إلهام " تنتظر على أحر من الجمر ...‏

اختض بدني بشدة . ارتعشت ثم جمدت مذهولاً، مرتبكاً، وأنا أراها ! شابة في الخامسة والثلاثين . طويلة ممتلئة . وجه أسمر جميل وعينان براقتان، واسعتان تضجان بالكحلة وشفتان كحبتي الكرز !‏

بهرتني روعتها وأدهشني قميصها المزركش الملون !‏

وصدرها الصارخ . وتنورتها القصيرة، السوداء . التي تكشف عن ساقين ممتلئين .. رمقتني بنظرة متعالية فشعرت بالاضطراب . وكأنها قرأتني، فلانت . وكما فعل العريف مونرو فعلت هي . احتوتني بنظراتها الغريبة، الفاحشة، فنفذت في أحشائي .توغلت داخلي بعيداً، فأحرجتني . أشعرتني إنها لا ترى بشراً، ولم تر مثلي من قبل !‏

-ما اسمك ؟‏

-كاكا حمه سعد اللّه‏

-وعمرك ؟‏

-بعد شهر سأدخل في الخامسة والعشرين ...‏

ضحكت، قهقهت بصوت عال ... وراح ثدياها يتلاعبان في صدر مكشوف نصفه .‏

-بعد شهر !!‏

-نعم ...‏

-هل يخصك يوسف الصديق بقرابة ؟‏

لم أفهم قصدها فسكّت فواصلت ضحكها .‏

-سمعت أنك في مدرسة محو الأمية ! هل تعلمت القراءة والكتابة ؟‏

-قليلاً .. أعرف كل الأسماء والأرقام .‏

-جيد ..هذا يكفي لتصبح وزيراً ... لماذا لم تتعلم في طفولتك ...؟‏

-لا يوجد مدرسة في قريتنا ..‏

-ولِمَ ؟‏

-السلماني لا يقبل ..إنه الأغا منير .‏

-وأين تعلمت السباحة والركض والمصارعة والوثب العالي والعريض ؟ !‏

-في معسكر الغزلاني .. اختارني الملازم علي ودربني ..‏

-أعرف .. فزت بها كلها ... وكنت الأول في جميع الألعاب .. لكن لم اعتزلت ؟‏

لم أزل مبهوراً بما أراه . لم أجاملها حتى بابتسامة اعتقدت أن حديثها وحركاتها، لا يتناسبان مع وقارها كزوجة ضابط .‏

-اعتزلت !! هم الذين أبعدوني عن سباق الجمهورية .‏

قالوا : إن اسمي ...‏

-كفى ... كفى ..فهمت ..فهمت .. لا تدوخني .‏

قرأت ملفك جيداً .... أطلعت على كل التقارير المرفوعة عنك ... وكلها تشيد بأمانتك واخلاصك، وتفانيك في العمل ...فرضيت بك حالما عرضك عليّ رأفت .‏

فيجب أن تكون عند حسن الظن بك ....‏

خفّت بهرة الروعة وغدا الصدر المكشوف كحائط أملس، لا حياة فيه، بالنسبة إليّ .! وصممت أن أجعله أمراً عادياً كي لا أموت بذهولي . لكني تذكرت قول مجيد " انتظر سيصير العادي خارقاً ويصبح المألوف مدهشاً "‏

فاستعذت باللّه .‏

-إنه الكلام ذاته، الذي أسمعني إيّاه العريف إسماعيل .‏

-هو الذي رشحك لرأفت ..يبدو أنه يحبك ...‏

-إنه لا يحب أحداً ...‏

-إلاّ مارلين مونرو .. حدثني رأفت عن غرامه بها...‏

قل لي يا كاكا حمه : لماذا لا تؤدي التحية العسكرية ؟‏

-أحياناً ..أنسى رفع يدي ! أتصورهم إخوتي فأكتفي بلساني .. بالسلام فقط‏

-ولم خرس لسانك عند الدخول ... دخلت عليّ كالأبله، دونما تحية أو سلام ! أنا لا أحب ذلك ... فأرجو ألا تخرس أمامي ثانية ...‏

-هل أؤدي التحية العسكرية هنا ؟‏

-أنت لم تؤدها هناك... فكيف بك هنا ... ؟!‏

-هل أؤديها، فهميني ؟‏

-أمامي لا .. أمام رأفت نعم .‏

-ومن هو رأفت ؟‏

-عجيب أمرك ... إنه سيدّك العقيد !‏

صاحت بهزء . ورمقتني من جديد بنظرة زهو . وبرقت من عينيها إشارات تحذير ونذير . ثم نفخت نفساً كاوياً وأمرت :‏

-اذهب الآن إلى غرفتك .. إنها هناك في الحديقة . استرح بعض الوقت .. وسأناديك ..وأرجو ألا تتعبني . .‏

-هل أنام مع الآخر ؟‏

-لا ...هذا الجحش سيترك لك الغرفة ... ويعود إلى الثكنة .. طردته ..‏

...‏

استيقظت على أصوات الطبول والمزامير .‏

نهضت مستغرباً وسألت نفسي " ماذا يحدث ؟ وعلام هذه الضجة وهذا الصخب ؟"‏

حملت جسدي الذابل، المتسمم . وتفرجت عبر النافذة .‏

وإذا بزفة هائلة ! موكب عرس مثير، يخترق الشارع الرئيس ويتقدم نحو دارنا .‏

-ما الأمر ؟! ماذا يحدث ؟‏

تساءلت من جديد وعيناي تحدقان بذهول .‏

وزاد من استغرابي وذهولي، رؤية أمي وأختي ترقصان في المقدمة ! تملكني نوع خاص من الغضب !‏

إنها المرة الأولى التي أراهما ترقصان في حياتي . غضبت حقاً . وتأجج عنفوان حميتي وكرامتي .‏

وهمّمت بالخروج لتأديبهما لولا أن وقع بصري على هدهد مرتدية ثوب العرس .‏

(ودخل مجيد بجلباته الأبيض حاملاً كتاباً ومجلة .‏

وهتف : - مبروك .. مبروك يا كاكا حمه .. جئتك بخبر علمي يفيدك ...‏

فتح المجلة وشرع يقرأ :‏

-بعد سنوات مضنية من الجهد والمثابرة، تم اكتشاف الجين المسؤول عن الإصابة بمرض فقد الذاكرة ...‏

ضحكت على حالي، ولطمت جبهتي . ولبستني رغبة جامحة في الهجوم على هدهد ... غير أني أسرعت، أغسل وجهي وأسرح شعري .. ووقفت أمام المرآة استقرئ صورتي لثوان ... ثم انطلقت خارجاً لاستقبال عروسي .‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 02, 2009 1:32 pm

- 9 -‏

أحسست وأنا أترك السرير قبل الفجر، بنشوة الاحتراق المقدس، وبنشاط وحيوية فائقين !‏

كانت هدهد تغط في النوم، متكورة على نفسها كطفلة صغيرة، ويدها تحت رأسها كأنها تحرس خرقة الدم . التي " تضطجع " بأمان تحت الوسادة، حتى مجيء الخالة أمينة لتأخذها . كي تمررها على عيون صديقاتها ومعارفها، متباهية بشرف ابنتها المصون !‏

قضينا ليلة رائعة . استمتعنا بحديث الأماني والتمنيات . ولم تنم هدهد إلاّ قبل ساعة فقط . بينما جفاني النوم وبقيت ساهراً . دون أن يغمض لي جفن ..‏

-هل أنت راضية، مستأنسة .‏

هكذا سألتها بالأمس ونحن ننفرد في غرفتنا بعد العشاء ...‏

-كل الرضا، وسأكون خادمة مطيعة .‏

-اسمعي يا هدهد، أنا لا أريد خادمة . أنا أريد طفلاً . تزوجتك من أجل ذلك .. فلا تخيبي ظني ...‏

-سأبذل جهدي، يابن عمي . وبفضلك ومعاونتك لن يعيقني شيء عن إسعادك، إن شاء اللّه ..‏

استرجعت حديثنا الأول ونزلت إلى المرآة بخفة .‏

حرصت على الهدوء والتصرف بما تبقى لي من عقل، كي لا أزعجها أو أثير مخاوفها . فهي كأي أعمى، نافذة البصيرة متحفزة الأعصاب، شديدة الانتباه لكل ما يجري حولها .‏

وقفت استطلع بالمرآة ماطرأ عليّ وأستبين بها ماجدّ وتغير، بين أمس واليوم . لاحظت ازدياد شحوب عينيّ وأصفرار وجهي ! بينما بدأ الورم الذي خلفه الثعبان، يخف ويتلاشى . فثارت ثائري، استدرت فواجهني الوجه الجميل .. اشتهيتها وكدت أجن ...‏

كانت عزائزي مثارة، ولم تكن بحاجة لمن يثيرها ... لكن ألماً خفيفاً في رأسي منعني من ايقاظها . وأقنعت نفسي بأن الأيام طويلة .. تكفي وتزيد .. ارتديت ملابسي وخرجت ... غادرت البيت دونما هدف !‏

وجدت نفسي أقف وسط ساحة القرية، بعد ثوان فقط . احترت ماذا أفعل ! وإلى أين أتوجه !‏

كنت ضجراً والسماء كانت ناصعة، تتلألأ نجومها وتبرق بشكل مثير . ملأت صدري هواء وتنفست بعمق.‏

سمعت نقيق الضفادع وهي تودع البشر، لتسبت .‏

فتذكرت أمي، اشتقت لها وترددت في الذهاب إلى بيت المخرف، حيث باتت أمس . تركت دارنا على الضد من رغبتي . وذهبت لتنام مع أختي بشيرة . لتتيح لنا أكبر قدر من الحرية، في ليلة عرسنا الأولى ..!‏

أنجزت أربعة أعمال مهمة منذ عودتي . وبقيت أمامي عشرة أوأكثر . وعليّ إنجازها قبل " الموعد " وقبل " انقضاء فترة الهدنة "‏

بالأمس، فكرت وأنا على الفراش وهدهد تمازحني، بالبئر ! وقررت البدء في حفره وسط الأرض الشرقية ... وذلك بعد تنظيف بئر المختار، في أرضه المحاذية لأرضي .. قررت ثم ارتأيت ضرورة تأجيل الحفر والتنظيف .. والشروع في تنفيذ وعدي لعم مصطفى .. واقتنعت أن الوقت مازال مبكراً على البئر .. ويجب الالتفات إلى ثور السلماني ...‏

فلقد تمادى في غيه كسيده تماماً . وآن الآوان لوضع حد لاستهتاره .‏

أدركت أن الواجب يدعوني أنا دون غيري لتأديبه، كما أدبت سيده. فكفى ما عمله من فضائح إلى حد الآن ... كفى اتجهت إلى حظيرة المختار، الخالية من الحيوانات منذ ما يقارب السنة . بعد بيع أغنامه السبعين دفعة واحدة، إثر خلافه مع موسى، الذي كان يتولى رعايتها ...‏

اضطررت وأنا أدخل على عجل للانحناء، كي لا يصطدم رأسي بسقف الباب الواطئ . لكني لم أتخلص من الروائح الكريهة . الروث وبقايا الخراف والرطوبة والهواء الفاسد ... ولم أجد مفراً من التقدم بحثاً عما جئت من أجله .‏

كان خم الدجاج فارغاً . وتناثرت الصحون والأواني الفخارية على مدار أرضه التي تحتل جزءاً صغيراً من الحظيرة لاتتجاوز العشرة أمتار . وعلى أعمدته الخشبية وقوائم المرابط نسجت العناكب بكثافة غريبة، شباكها الواهية، وكذلك فالزوايا والرفوف وظهر النافذة الصغيرة المغلقة، لم تنج من دنس الشيطان ..‏

تقدمت فبرز لي خيال " أحمد " فجأة ! تمثل أمامي بوجهه الضاحك .. ثم برقبته المدماة ... فزعت فبكيت .. بكيت بحرقة !‏

أحمد كان صديقي . ولدنا في أسبوع واحد ونشأنا معاً . هنا كنا نلعب، ننظف البقرات ونحلبها . نملأ السطول ونتسابق في حملها إلى المطبخ الواسع . حيث كانت أمه الراحلة وخالتي مريم قبل زواجها، تغليان الحليب وتصنعان الجبن و " الروبة " واللبن المصفى، والزبدة بصورة أفضل مما تنتجه الخالة أمينة .‏

بكيت أحمد، الذي غرّر به الشيطان، ووسوس له بأن يتجاسر، وينتهك شرف أبيه . ويلبسه ثوب العار طوال عمره . أحمد الذي ماتت أمه بسببه، ولفظ جده أنفاسه بعد شهر وهو يلهج باسمه .‏

تذكرت الجد العجوز " أبو لحية التيس " والنظارة الطبية البيضاء . التي داسها الجنود بأحذيتهم الثقيلة .‏

وتذكرت جدته التي ماتت قبل أسبوعين أو أكثر . وتراءت لي عصاها الخيرزان -الموروثة عن زوجها -وهي تنهال على ظهورنا بسبب أو بدونه، فتلسعنا ..‏

كان بيتنا القديم المهجور بسبب الجن لصق بيتها .‏

الأمر الذي ظل يغرينا -أنا وبشيرة -على التفنن بسرقة دجاجات العجوز التي ولعت بتربيتها . إضافة إلى الاستحواذ يومياً على حصتنا من البيض الكثير، والمتراكم .. كنا نبتكر من أجل البيض ما لايستوعبه العقل ... نبتكر خططاً جهنمية لنيلها ! نتسلل، نحفر، نتخفى، نخلع القفل والمزلاج، نكسر الباب، نزيل عيدان السور وخشبه، نعمل فتحة، أو نثقب الصفائح الجدارية ! . وأخيراً أهتدينا إلى حل إثر الحصار الشديد والمراقبة الصارمة ...‏

كنا نربط حبة " قمح " كبيرة أو " ذرة " بخيط وندليه من السطح .. وننتظر أن تتكرم علينا دجاجة غبية وتلتقطها. مما يسهل علينا سحبها إلى الأعلى ..نصعدها بسرعة عجيبة ونذبحها بعيداً عن عيني خجة اللامعتين .‏

كنت أحب الجد أكثر من العجوز، أخت جدتي .. وزاد حبي له حين لقنني درساً لن أنساه، به ختمت فصول السرقة . إذ لم أمد يدي بعد ذلك إلى شيء لايخصني .. مازلت أذكر كل شيء بالتفصيل ... فذات صباح ماطر، تسللت كعادتي لأخذ البيض. بعد أن تأكدت تماماً من سلامة موقفي .. فالكلب غداً صديقي ... يعرفني ويتشمّم رائحتي عن بعد، ويهز رأسه مرحباً بقدومي .. لا يمكن أن ينبح ويثير ضجة تتنبه إليها العجوز قبل الجميع .. كما أن هدأة الفجر والخيط الأسود، وسكينة الدجاج، كانت تساعدني إلى حد كبير، مع خفة الثعلب الماكر التي أتقنتها . تسللت بيقظة وحذر وملأت جيوبي، تماماً كما أفعل كل يوم . وهممّت بالخروج، فإذا بي أباغت بعصا الخيرزان تعترضني ! ثم ظهر الجد بملابس النوم وبشعره الأبيض الحاسر وبوجهه الصارم ....وبدا واضحاً أنه كان يراقبني منذ لحظة وصولي ... خفت أن يضربني أو يوبخني ... لكنه لم يفعل !‏

حتى أنه لم يسألني عما أفعل هنا وكيف دخلت، ومن أجاز لي الدخول . لم يبدر منه ما ينبئني معرفته بالسرقة ..!‏

بكل طيبة وذكاء ودون أن يجرح شعوري -وأنا ابن الاثني عشر ربيعاً -مازحني ليخفف من رهبتي ... ثم تعمد كسر البيض في جيوبي ! ففي غفلة مني لطم جيوبي الممتلئة براحة كفيه، بحركة سريعة قوية مباغتة .‏

ومضى دون كلام ! ابتعد عني ساخراً في أعماقه وتركني في موقف لا أحسد عليه . لقنني درساً بليغاً لن أنساه ما حييت . وأكمل أبي الدرس . حيث لقنني " فلقة خالدة " بسبب ملابسي الملوثة بالبيض . والتي لم أكن أملك غيرها‏

وأيقنت حين عرتني أمي ودثرتني ببطانية سوداء، وتطوعت بشيرة لغسل القماش القديم، الذي لم يجف بسبب البرد إلا بعد ثلاثة أيام، أيقنت أن الجد لم يتركني عبثاً .. بل " كلف أبي " ووكله بمهمة الحساب، دون أن يتدخل أو يفتح فاه ..‏

ترحمت على روحه وروح الجدة " أم شوارب السخلة " وعلى روح صديقي أحمد . ثم فتشت عن الحبال والمسامير والمطرقة الخشبية الكبيرة، أخذتها مع أربعة قضبان حديدية قصيرة . حملتها صوب شجرة الجوز الضخمة . الواقعة على يمين بيت السلماني ..‏

اخترت المكان المناسب . نظفت الأرض جيداً بحذائي وبيدي، وثبّت القضبان والمسامير، وجلست لأستريح فارتفعت في تلك اللحظة زقزقة العصافير وهي تكبر للإله . ومن ثم وهي تحوم بين الأغصان والحشائش .‏

هدني التعب وتقيأت . وعاودني الصداع فغفوت .‏

مرّ أحمد وأمه وجدته مع أختها وأبي وأخي رحيم، وهبة وخالد أمام عينيّ مروا يضحكون ويبكون في آن واحد ..!‏

عجبت . أردت سؤال الباكين عن سبب بكائهم، والضاحكين عما يضحكهم فلم أقدر . إذ نهضت على صوت هادر رن في أذنيّ :‏

-ماذا تفعل هنا ؟ ما بك ؟‏

فتحت عينيّ بصعوبة، فألفيت أمي تقف على رأسي هلعة مستلبة . قبل أن تنحني عليّ متسائلة :‏

-ما هذا ! لماذا جئت إلى هنا ؟ لماذا ؟‏

-صباح الخير يا خجة ..‏

-ما الذي حدث ؟ أتترك فراش العرس وتنام على الأرض !‏

-جئت لأعمل ...‏

-تعمل !! أتعمل في صبحية عرسك ؟ ما فعلها أحد قبلك ! أمجنون أنت ؟ هل جننت ؟‏

-لا يا أمي .. لا ....‏

-لماذا تركت البيت ؟ لماذا تركت عروسك وحدها ؟ إنها لم تتعرف بيتنا بعد ...‏

-تركتها نائمة .... فلا تخافي ....‏

-لم أصدق حين أخبرتني افتخار بأنها رأتك تغادر البيت .. أنهيت صلاتي وجئتك...‏

-هل حان وقت الصلاة ..؟‏

-ألم تسمع الآذان ؟‏

-لا .. لم انتبه ! وأنت ...‏

ضحكت قبل أن أنهي كلامي، قهقهت عالياً . وبدورها ابتسمت كأنها خمنت ما يضحكني :‏

-أنت لم تغادري البيت بسببي .. قولي : مالذي أخرجك في هذا الوقت ؟ كأنك لم تنامي ....‏

-مبروك عليك يا بني ... مبروك ...‏

تهربت من الإجابة .. وانحنت على رأسي وقبّلته . استويت جالساً وأخذت رأسها، قبّلته مراراً وقبّلت يديها . وداعبتها :‏

-المخرف أزعجك .. أليس كذلك ؟‏

ابتسمت بحياء واعترفت :‏

-لم يغمض لي جفن طوال الليل . لم يدعني أنام لحظة ... جن جنونه حين علم بوجودي ...‏

-ألم تتفقي مع بشيرة وافتخار بعدم إخباره !‏

-لم يخبره أحد ولكنه شم رائحتي، كما يقولون ! تعارك مع يحيى وضرب افتخار التي كانت تجري خلفه، تمسح قطرات بوله ..... شرب قنينتا حليب، وتعش ثلاث مرات !‏

-هل أسمعك رغبته السابقة ؟ وحبه العظيم !‏

ضحكت وهي تجرني من يدي .‏

-هيّا ... انهض .... يجب أن ترجع إلى البيت ....‏

-لم تركت بيتنا يا أمي ؟ ألم أسألك ألا تفعلي !‏

-هيّا .. تعال .. عروسك بانتظارك ...‏

-دعيني أعمل يا أمي .. واذهبي أنت .. خطيبك بانتظارك .. مازحتها فرددت:‏

-لعنة اللّه عليه .... تعال .... تعال ...‏

حاولت عبثاً إعادتي معها ... غير أنها اقتنعت بعدم جدوى محاولتها ... أقنعتها بعد جهد بالذهاب وحدها ... فذهبت وهي تعلن استغرابها، عميق دهشتها لتصرفاتي ... فأنا " عريس " لم تمر ساعات بعد على زواجي ...‏

بقيت أتابع عملي .... وكدت أنهي المرحلة الأولى لولا الحاج صالح زوج عمتي ... تناهى صوته عبر مكبر الصوت يقرأ دعاء الصباح . فأفسد خطتي .. وحتمَ تأجيلها .. أدركت أنهم سيزعجونني ...هو وبقية الرجال .... سيتتابع خروجهم .. سيأتون إليّ .. يسلّمون عليّ ويباركون زواجي ويمضون .. وربما سيستغربون وجودي هنا . ويعلنون دهشتهم .. كما فعلت أمي .... ولما كان الاختباء عن أعينهم شبه مستحيل .. فضلت العودة إلى البيت ... إذ لم أجد مبرراً لبقائي...‏

اضطررت للعودة دون تحقيق كامل العمل، الذي بدأته . وجدت أمي في المطبخ . تحاول إشعال النار في الموقد . لتهيئ لنفسها إبريق الشاي، ولنا فطور " الصبحية " الذي يفترض أن تجلبه الخالة أمينة ... لكننا ذكرناها برفضنا المسبق، لمعرفتنا " عسر الحال" عندهم ....‏

أبديت مساعدتي لأمي فأبت ذلك . دفعتني إلى غرفتي دفعاً .... هامسة في أذني بمحبة :‏

-مكانك هنا وليس في المبطخ .‏

أغلقت الباب وراءي بهدوء .. لم تشعر هدهد بدخولي كانت تسبح في أحلامها ... تستغرق في نومها بارتياح وهناء.... سألت اللّه وأنا أنزع ملابسي أن يديم علينا الهناء ... دسست جسدي في الفراش . التصقت بها فتنبهت . تقربت مني أكثر ومدت يديها . راحت تجس بأصابعها . تتلمس ببنانها أعضائي، كما فعلت أمس ! ولما اطمأنت إلى أن كل شيء في مكانه، احتضنتني بقوة .‏

-ماذا تفعلين ؟‏

-أتأكد من سلامتك ...‏

-لماذا ؟‏

-لأنني أسعى لأن أبصر من خلالك، ما عجزت عيناي عن إبصاره .. أريدك أن تكون سالماً معافى دوماً ....‏

-لم أفهم ...‏

-... .‏

-قولي ماذا تقصدين ؟‏

-رأيت حلماً غريباً ؟‏

-ياسائر .. يا اللّه .. إن شاء اللّه خير ... بماذا حلمت يا هدهد ؟‏

-سقط نابي الكبير العلوي ..!‏

-اسكتي اسكتي ... لا تعيدي الحلم ثانية .... ولا تقصيه على أحد آخر ... أياً كان ..‏

-أمرك .. ابن عمي .... أمرك ....‏

همست باستسلام .. والطفت يدي .. قبّلتها بحرارة .. والتصقت بجسدي كأنها تود الذوبان فيه !‏


يتبـــــع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
amazigh
النائب
النائب
amazigh


العصفور والريح Sports10
المزاج العصفور والريح 1010
مغربي
عدد المساهمات : 210
نقاط : 585
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 04/07/2009
العمر : 30
الموقع : http://www.achamel.info/Lyceens/cours.php?id=670&idc=1

العصفور والريح Empty
مُساهمةموضوع: العصفور والريح   العصفور والريح Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 09, 2009 7:04 pm

- 10 -‏

تناولت الفطور مع أمي وهدهد، بحضور أمها وبشيرة وابنتها . وتغديت قرب المسجد حيث مدت السُفر داخله بمبادرة من الملا، الذي تطوع بإقامة وليمة كبرى للأهالي احتفاءاً بزواجي ...‏

حال وصولي توافد الرجال لمباركتي وتقديم التهاني .... لم يكن عددهم كبيراً .. لكن ما أن حل الظهر حتى جاءت القرية كلها ... جاؤوا قبل ساعة من الوقت المقرر للغداء ....!‏

اتسع المسجد بضيقه للرجال القادمين مع أبنائهم -ولدقائق راح يسمع لهم لغط مكبوت كدوي النحل، سرعان ما تعالى همساً وتصاعد لغواً وثرثرة حادين . وعندما تأخر " الأكل " بدأت علائم فقدان الصبر تطفو على الوجوه ! وكادت تتحول إلى شيء كريه وتنطلق من اللسان .‏

وحين جلبت الصواني ابتدأت المعركة . وشرعت الملاعق تضرب حافات الصحون، ومن ثم قعورها . وبدا رنينها الرتيب أشبه برنين السيوف الصدئة، وهي تصطدم بالدروع ... وطوال الوقت لم تتوقف طقطقة الفكوك وهي تمضغ الطعام، بشراهة وتلذذ . وكثر التلمظ ولعق الشفاه ومد الألسن، والتهمت الأطباق ولعقت الصحون والكاسات، ومن ثم سال اللعاب وارتفعت أصوات ارتشاف الشاي ...‏

لم احتمل ذلك . حاولت أن أصبر نفسي فعجزت . ولم أجد بداً من أخذ صحني والجلوس في الخارج ...‏

بعد الوليمة، وبمساعدة عمي حسن، أقام المختار حفلات ودبكات استمرت طوال اليوم ...‏

أبدي الجميع فرحتهم بزواجي . فبالإضافة إلى تهانيهم وتبريكاتهم، دعيت إلى حفلة أقامها يحيى، إلاّ أني لم أطق صبراً . لم أحتمل دعابات موسى السخيفة وكاد تنوري يفور بوجهه . فأمام جمع الأصدقاء المدعويين لاطفني :‏

-أرجو أن توافق يا كاكا حمه على زواج أمك من أبي ... وتسعى لإتمام الفرح . فأبي لا يطيق البقاء عازباً وخجة تسرح أمامه وتمرح ... بالأمس جاءته متحدية فألهبته نيراناً حامية ... ثق بأنه سيكتب لها كل أملاكه .‏

-قبل أن يفكر المخرف بالزواج، ليوقف إدراره أولاً .‏

أفهمته بلغة صريحة فخرس .‏

وطال الحديث وتشعب . ولم أرغب في البقاء أكثر ... اعتذرت بالذهاب إلى البيت ..‏

تسللت هارباً رغم مما نعتهم .‏

لا أدري كيف خطر بيت جدي المهجور ببالي . قصدته والأفكار تتضارب في رأسي .. أفكار جديدة مع أخرى قديمة !‏

تخيلت وأنا في الطريق، الرعب الذي ركبنا طوال سنين . حتى انتقلنا منه إلى بيتنا الجديد، تاركين كل شيء .. على حاله!‏

(( عند الباب رأيت جدتي تدب بساقيها، مستندة على عكازتها . وتنتصب قرب العتبة . لم تزل حدوة الحصان معلقة على الإطار الخشبي فوق الرأس مباشرة . خوفاً من العين الحسود وتجنباً للشرور ...‏

-يدبرها اللّه ..‏

همست بلازمتها المحببة، وهي تبتعد عن طريقي ...‏

سمعت طرقات عصاها على الأرض، حتى اختفت ))‏

أهتز رأسي، دار بحثاً عنها .. فلم أجد إلاّ طيفها يحلق في أعالي السموات ... كحمامة بريئة ..مسالمة !‏

تشجعت .. بسملت ودخلت .‏

أشعلت المصباح (( فبانت لي عمتي بتول، منكفئة على التخت تضحك . سلّمت عليها قلم ترد ! هرعت إلى الحمام .. ودخلت فجريت، أسرعت خلفها .. ووقفت أراقبها وهي تدلك قدمها بالحجر الأسود . ووجهها " بقرص السبتاج الأبيض ))‏

استفقت من غفوتي فاعتصرني الألم . ترحمت على روح جدتي وعمتي ... فمازالت ذكرى الأيام الماضية، راسخة بين جوانحي، منتعشة حتى اليوم .‏

دخلت الغرف وصعدت إلى السطح .. وحتى لا تبقى الخرافات تسيطر علينا ... كان عليّ التخلص من هذا البيت ... لذا قررت هدمه ... سأستفيد من أحجاره بالتأكيد .. سأبنيبها سور الأرض الشرقية .‏

قررت ووجب أن أحدد الوقت واتفق مع نصار ... واجهت سعدو عقب خروجي . صار أمامي وجهاً لوجه وهو يقود بغلته .. ويحمل أكياساً ملأى بحاجات متنوعة، توحي بأعباء كبيرة، وبمسؤوليات أكبر ....‏

أقبل نحوي متردداً، مقطباً . فانتحيت به جانباً .‏

قبّلني رغماً عنه وبارك لي زواجي وكاد يمضي بعيداً .‏

فأمسكت كتفه، فذعر . تطلع إليّ بعينين مدهوشتين، خائفتين . فسألته بلهفة ودون مقدمات :‏

-ابق معي ...‏

هالني ما شاهدت على وجهه من معالم الأسى والحزن العميقين فقلت موضحاً لأخفف من روعه :‏

-أريد مساعدتك ...‏

سكت لحظة ثم سألني ساهماً :‏

-بأي شيء ؟‏

لم أكن مستعداً للشرح والإطالة : اكتفيت بالقول :‏

-تعال وسترى.‏

-لا ... لا أستطيع .. عندي عمل مهم .... يمكنك تأجيل ....‏

أعلن رفضه القاطع، فأزعجني . سحبته بقوة فأختل توازنه وتكوم تحت قدمي وتناثرت أكياسه على طول الأرض .‏

اعترض بخبث . فتابعت غير عابئ بمعارضته . نزعت سرج البغلة . رميته بعيداً وصحت به :‏

-أنت الذي ستؤجل أعمالك ... تعال معي ... هيّا ... مددت يدي، أعاونه لينهض فاستفسر ملتاعاً ...‏

-إلى أين يا كاكا حمه ؟ ماذا تريد ؟‏

-سترى بأم عينيك ... فلا تخف ... قلت لك أريد مساعدتك ... فأبق .. احتاجك لتساعدني ... استغرب، وقال ساخطاً :‏

-أساعدك !! بماذا يا كاكا حمه ؟‏

-لا تستعجل .. اذهب الآن ... احضر لي خيطاً سميكاً ومخيطاً كبيراً ... ولا تنسى أن حريتك، حياتك بيدي . وسجنك رهن إشارتي ...‏

بهت . دارت عيناه دهشة .. وتكلم ونظره في نقطة غير محددة:‏

-ماذا ستفعل بهما ؟‏

سعدو الخبيث، المتهم بسرقة وكالة الآغا، والذي أنكر دين أبي كان وسيبقى أكثر أهل القرية موضع ريبتي وشكي ...‏

-اجلبهما لي بسرعة ... وسترى نفعهما .. هيّا اذهب وإياك أن تتأخر .. سأنتظرك عند شجرة الجوز .‏

ساعدته في لمّ حاجاته .. وتردد في الذهاب، فدفعته ... حدجني بنظرة ذعر ومضى ....‏

لا حقته بنظراتي، وأنا اتجه إلى الشجرة ... ورغم معرفتي بخبثه وإمكانية غدره إلا أني كنت واثقاً من عودته ..‏

تفحصت القضبان والمسامير المحكمة الإثبات . ولما داخلني الاطمئنان توجهت إلى بيت السلماني ...‏

غدا معروفاً للجميع ولع الشاب المستهتر حسان، في دفع ثورة البكر للتحرش ببقرات القرية، بحجة إخصابها . ولأنه بدأ يتحرش بعزيزة -بقرة سعدو المدللة -وانتقاماً لما فعله بعم مصطفى، وخشية أن يكرر فعلته بالبقرات الثلاث اللائي سأشتريهن له، فكرت بحسم الأمر .‏

أعجبتني شجاعة عم مصطفى، حين وقف بوجه حسان . صده بحزم وأهانه . تلاسن معه وكادت تنشب بينهما معركة حامية، لولا تدخل المختار .... فض النزاع حين أيقن عدم جدواه وبعدما أدرك أن عم مصطفى لم يتردد في خوضها دون خوف ... مما شجع حسان على الاستهتار أكثر، وزاد من غطرسته . فأخذ يرسل ثوره، يقوده إلى حيث ترعى البقرات، مما ولدّلهن جروحاً دامية، أثرت في مردود الحليب . وبالتالي ولّد لعم مصطفى خسارة يومية . لم يتخلص منها إلاّ ببيع مصدر رزقه اتقاء للشر وتفادياً للمواجهة المحتملة .. مع حسان ..‏

لم يشف غليلي ذلك الجرح البسيط، الذي أحدثته في رقبة السلماني . تمنيت معاودة الهجوم وحز رقبته بالكامل، قطعها .. ورميها للكلاب .. لن أنسى ما حييت ما فعله بي، إبان سلطته وعمالته لنظام العصابات التي نصبها الانكليز انتقاماً من شعبنا . بأمره تم حجزنا -أنا وأحمد وموسى -في كوخ صغير لمدة أسبوع بتهمة مساعدة الأنصار .‏

وكان قد غطى أرضيته بالماء بعمق متر. فتقززت رئتا أحمد . فأخذ يصرخ متألماً، يبكي ويتوسل، فأخرجوه وساوموه . فرضخ ووقع عهداً بالوفاء والإخلاص للسلماني، وتعهداً بخيانتنا . نفذه بعد شهر .. وكانت السبب في ذبحه ..‏

منذ يوم الاحتجاز نبعت فكرة الانتقام في صدري، وترسخت في ذهني ... واختمرت بمرور الوقت .. ورحت أترقب الفرصة المناسبة للتنفيذ ..وهاهي تتاح لي .. الآن ... أدبت السلماني أخذت حقي ... فجاء دور حسان ... لم يطمئن قلبي له بعد ...‏

مشيت بخفة وسرعة، إلى حظيرة السلماني . كان الوقت ظهراً وحمودة كالعادة يتواجد في هذا الوقت، مع حسان في الوكالة .‏

عبر البوابة المشبكة رأيت البكر، مربوطاً . يدور في مكانه بانتظار مجئ حسان . كي يصطحبه في الجولة اليومية المقررة، لغرض إشباع حاجاته الجنسية، وإطفاء شهوته المتأججة كالنيران، في موسم التزاوج هذا ...‏

تقدمت، رفعت مزلاج الباب . أبعدت الخشبتين الحاجزتين، واللتين كانتا تعيقان أية حركة يقوم بها الثور للخروج، فيما لو استطاع التخلص من قيوده .... قطعت الحبل بسكيني . وقدت البكر بهدوء . بدا مطاوعاً وكأنه اعتقد أنني سأفسحه بدل سيده ! وآخذه ليعتلي مؤخرات البقر ...‏

أصعدته إلى المكان المطلوب دون الالتفات لصيحات سعدو المرعوب وهو يقترب هلعاً، مهرولاً :‏

-ماذا تفعل يا كاكاحمه ؟! ماذا تفعل ؟‏

-تعال ساعدني من أجل عزيزة ... من أجل سلامتها ..‏

-لا.. لا قدرة لي ... لا أستطيع .‏

سلمني الخيط والمخيط . وانصرف مذعوراً، وكأني أريد ذبحه هو ..!‏

ضحكت منه وراقبته . يفر، يسرج بغلته، ويتوجه إلى بيته .‏

بهروبه توجب الإسراع . فمادمت وحيداً، فعليّ إضافة إلى الحذر، بذل أقصى مالديّ من قوة . فالبكر ليس سعدو أو السلماني . وخفت أن تخونني يداي . أو تبدر منه مقاومة عنيفة، يتولد عنها حركات تؤذيني، ولا أستطيع صدها أو تلافيها . أو يصدر عنه خوار غير متوقع ينبه الآخرين .‏

قربته من الشجرة . حشرت رأسه بين ساعدي، مسّدت رقبته . وانحنيت لأربط قوائمه .‏

لم يبد أية مقاومة، ولم تظهر منه ردود فعل مضادة .‏

إلاّ أن الصعوبة كمنت في طرحه أرضاً، ومن ثم ربطه بالحبال وشده في القضبان، والمسامير المثبتة منذ الصباح .‏

ربطته بإحكام، بعناء كبير .. وحسبتني نجحت وسيتم الأمر بسهولة ... لكن ما أن نغزت خصيته بالسكين حتى أطلق خواراً، لم أسمع مثله طوال حياتي ... حتى عند الذبح !‏

أرهبني الصوت مثلما أرهبني منظر الدم . انبثق بغزارة أكثر مما انبثق من رقبة السلماني، حين حززتها المنجل ... أخذ يتحرك، يحاول الانتفاض، الرفس، وأنا منهمك في استئصال فحولته، دون الاهتمام بمقاومته الضارية التي أسفرت عن انخلاع المسامير.‏

إذ انخلع المسمار الأول جراء حركته، وتلاه الثاني والثالث . ثم أفلت القضيب الأول ! دون أن أولي ذلك أي اعتبار. لكن ما أن تراءى لي القضيب الثاني يهتز، حتى خفت .‏

تملكني الخوف من نجاح البكر في الإفلات من قبضتي، قبل الانتهاء من عملي .‏

انغمست يداي في دمه الأحمر . وتلوثت ملابسي، وتعبت سال عرقي، تصبب على جبهتي بغزارة ...‏

-توقف .. توقف .. ماذا تعمل ؟‏

ضجت الصرخة المتوترة في أذني، فتلفتّ لمعرفة صاحبها .‏

لمحت حسان قادماً والسخط يغلي في شراينيه . لم أبال، تابعت عملي ... فقد كدت انتهي منه .. وبدأت في خياطة الجرح الذي أحدثته . على الرغم من كل الحركات المستميتة، والمقاومة الضارية التي أبداها الثور المدلل !‏

نفعني المخيط الحديدي والخيط الصوفي المبروم، فراحت أصابعي تعمل بسرعة ومهارة ....‏

-ماذا فعلت يا مجنون ؟ ! ماذا ؟‏

صاح حسان وهو يقف على بعد خطوات مني . مدهوشاً مرعوباً لرؤية دماء عزيزه البكر، الثائر المقيد .‏

-لماذا ؟ ما الذي حدث لعقلك ؟‏

صرخ مستغرباً . وعيناه تتقدان جمراً .‏

وخشية أن يباغتني بالهجوم . شهرت سكيني بوجهه:‏

-سأمزق صدرك ...‏

هددته وكدت أتقدم ناحيته، لولا فطنته . تجاهلني واتجه إلى البكر ! في محاولة ذكية لإمرار الحادثة بسلام . انحنى عليه ليفك رباطه، ويطلق سراحه .‏

-حذار .. حذار يا حسان ... لاتمد يدك ... إنه خطر ... خطر ...‏

زعق نصار من بعيد محذراً . وآكمل آمراً مهدداً حسان من ارتكاب الخطأ الجسيم . وهو تخليص الثور من الحبال، قبل اخماد مرجله .‏

مسحت يدي في التراب، ثم في ساق الشجرة . ونظفت السكين .. وغادرت المكان مبتهجاً .‏

اعترضني نصار في الطريق .وواجهني بعتابه :‏

-لماذا فعلت هذا يا كاكاحمه ؟ لماذا ؟‏

لم أرد عليه . مضيت قدماً إلى البيت . فصادفت جوقة الراقصين، المتناثرة . توزع أفرادها بين ذاهل واجم، وقف يترقب وصولي، وبين فضولي مرتاب، هرع إلى حين تمدد البكر مضرجاً بدماء خصيتيه . وبجواره وقف حسان هلعاً، محتاراً .‏

-هات الرماد .. الرماد ... اجلبه من التنور ...‏

...‏

جاءني صوت نصار الآمر. ومن ثم مر حمودة من جانبي مهرولاً ...‏

في اليوم الثالث من إقامتي، دعتني إلهام إلى المطبخ . أرسلت ابنها ميسر إلى غرفتي قبل المغرب .‏

-أمي تريدك .. بسرعة .‏

قال لي كالببغاء . وذهب ليلازم غرفته حتى الصباح .‏

حتى ذلك الوقت اقتصر عملي، على التسوق . شراء ما تحتاجه السيدة الفاضلة إلهام، من حاجات نسائية خاصة بها . أما حاجات البيت الضرورية فهي مهمة العقيد رأفت . إذ يبعثها يومياً بسيارة عسكرية قبل العاشرة صباحاً .‏

عبرت الصالة الجميلة، ثم ولجت المطبخ، فرأيتها!‏

فوجئت برؤيتها كعروس في ليلة زفافها ! أثار عجبي وجهها الملطخ ببهارج الألوان ! وشعرها المرتب، المزين بوردة حمراء ! وصدرها العاري !‏

صدر عريض مكشوف يتباهى بالثديين الصارخين !‏

وساقان عاريتان لامعتان ! وثوب " ململ " وردي خفيف، يكشف البقية الباقية من الجسد الرشيق، الملتهب .‏

-" اللّهم اجعلها بقرة "‏

تمتمت وأنا أتملاها بإعجاب، ودهشة .‏

-تعال .‏

نادتني بدلع فتقدمت . سحبت كرسياً كما أشارت عليّ، وجلست أمامها بقلب يخفق حياءً ...‏

تقابلنا وجهاً لوجه، فأزداد خفقان القلب ... وبدأت أعرق من شدة الخجل .‏

إنها المرة الأولى التي أجالس فيها أنثى، على هذه الشاكلة .. وأية امرأة ..!‏

لم يكن يفصلنا سوى شبر واحد، حيث سمعت زفير أنفاسها المتوتر . ولمحت بريق عينيها اللامعتين، اللتين أشعرتاني بالرهبة .‏

استغفرت ربي واستعذت من شر الشيطان الرجيم .‏

الذي حدست وجوده مستريحاً على رقبتي !‏

لدقائق بقينا صامتين ! راحت تتأملني في شبق ووقاحة، وتأملتها في حيرة ودهشة . وتساءلت في سري " ماذا تريد ؟ " .‏

وعلى حين غفلة لوت رجلاً على رجل . فبدا ما تحت الثوب ! فزعت، أحسست بالكراهية لها، والمقت والاحتقار، تجتاح كياني .‏

استعذت باللّه من جديد وأبعدت الشيطان عن رقبتي . وأزحت الكرسي قليلاً، وأدرت رأسي عنها حياءً وارتباكاً .‏

صحيح أن مجيداً كلمني عن مغامراته . وحدثني عن النساء العاريات، اللائي نام وسهر معهنّ . لكني لم أر واحدة .. من قبل .. لم .. واللّه ..‏

-ماذا بك ؟ لم أدرت وجهك ؟‏

قهقهت بعد سؤالها المستغرب .‏

التفتّ مضطراً وسرعان ما ضجرت من عينيها، اللتين راحتا تنزان شظايا الرغبة الجامحة . وتفاقم ضجري حين أنامت عنقها بغنج واضح على كفتها الأيمن وسألت :‏

-هل تجيد الطبخ والنفخ ؟‏

صمتّ، لم أدر بم أجيب ! إذ لم أعرف قصدها بالضبط . لم أجد أية علاقة بين الطبخ، وهذا الصدر المضطرب !‏

-طباختنا العجوز، تركت العمل عندنا .. اليوم ...‏

-وتريدين أن أحتل محلها ... أقوم بمهامها ؟‏

-بالضبط .. أعندك مانع ؟‏

-أنا لم أدخل مطبخاً من ...‏

أخرستني بإشارة من يدها وأكملت :‏

-لم تدخل مطبخاً من قبل .. ولا تعرف كيف يقلى البيض .. أعرف كل ذلك .. لا تهتم .. ستتعلم .. لا أحد خرج من بطن أمه طباخاً .. لا أحد ..‏

كانت عيناها الواسعتان مركزتين في عينيّ ، حين همست بعد ثوان، بشفتين حمراويين رقيقتين :‏

-سأعلمك يا كاكاحمه .. ستتعلم على يدي ..‏

-أتوافقون على أكل ما أطبخ ؟!‏

-توافقون !! من تقصد ؟ رأفت لا يأكل في البيت .‏

فهو لن يأتي إلاّ مساء الخميس ... ألا تعرف أنه يبيت في المعسكر ...‏

فغرت فمي دهشة .. فواصلت :‏

-لا يذهب عقلك بعيداً ... لا زوجة ثانية ولا عشيقة :‏

سكتت . حدقت بي باستهزاء . وتنهدت :‏

-أتفهم ما يعني عشيقة ؟‏

-لا ... لا أعرف ...‏

استوت جالسة فاستترت . فغرت فمها هي الأخرى مستغربة جهلي التام . وإذ تأكدت من صدقي عادت للقهقهة وبصوت عال! ثم استفسرت :‏

-ألا تعرف حقاً أم أنك تمزج ؟‏

اضطربت .. شعرت بالحرج وأكدت :‏

-قلت لك لا أعرف .. يعني ... لا أعرف ...‏

قهقهت من جديد، وراحت تنظر إليّ بنهم وشبق ... فتملكني الخجل والحياء قرأت في عينيها ما يدعو للحيرة والدهشة .‏

-ألم تقرأ ذلك في كتاب ؟! في مجلة ! في جريدة ؟!‏

-أخبرتك أني لم أعرف القراءة والكتابة إلاّ مؤخراً .‏

-ألم تشاهد ذلك في السينما، في التلفزيون ؟‏

-لا تلفزيون في قريتنا ولا سينما ..‏

-أمرك أعجب من العجيب، وأغرب ! قل لي : ألم تسمع بامرأة " فاسدة "؟‏

-أنت تسألين كثيراً ... قولي : ماذا تريدين ؟‏

-ماذا أريد !! لقد توسمت فيك خيراً يا كاكاحمه . ومع ذلك سأبقيك .. سأدعك تنضج كالتفاحة ... سكتّ استوعب كلامها . خيل إليّ إنها تستغفلني . تريد سبر معلوماتي . فلم أشأ إظهار غبائي ..‏

-تذكرت .. تذكرت " هبة " زوجة نصار . كانت فاسدة فذبحها .. رأيته بعيني .... لكنه أدعى بأنها هربت من القرية . لم تصدق . بان ذلك على ملامحها، وظهر على لسانها:‏

-عجيب !! متى حدث هذا ؟ متى ؟ هل رأيتها حقاً ؟ عاودني الاضطراب شعرت باستحالة شرح الأمر لها :‏

-نعم .. . والسلماني شهد أنه رآها تهرب ‍‏

-من هوالسلماني ؟‏

-إنه الآغامنير .. عميل السلطة .. كانت هبة تعاشره سراً ... لذلك ساوم نصار ..‏

-عال .. جداً عال .. قلت " تعاشره " . يعني زوجة نصار كانت " عشيقة " السلماني ....‏

-عشيقة ‍‍ ولكنهم قالوا عنها : "زانية " .‏

امتعضت .... لاح الاستياء على محياها وهي تعترض :‏

-لا ..هناك فرق شاسع يا كاكا حمه .. فرق شاسع ... العشيقة .. امرأة شريفة تحب رجلاً محترماً، وتقيم معه علاقة جنسية .. دون زواج ..‏

-بالحرام ‍ أعوذ باللّه ..‏

هتفت مستنكراً فاستطردت توضح :‏

-المهم أنهما متفاهمان ... ولا أحد يعرف سرهما ... لا أحد سوى اللّه .‏

-والشيطان .. لأنه دفعهما لعمل المنكر .‏

-وأنت، ألا عشيقة لك ؟‏

-أنا ‍!! استغفر اللّه .‏

أهتف بفزع فتضحك !‏

تقرقر حنجرتها بضحكة ماجنة . ويتراقص ثدياها خلف قميصها الوردي الشفاف.‏

أصمت يلفني الذهول. وبغته، تستفسر بخبث :‏

-ألم تقترب من امرأة، يلتحم جسدك بجسدها ... ؟‏

تقيم معها علاقة ؟‏

صعقت لوقاحتها فصحت متنرفزاً :‏

-أنا لست فاسداً ... وعندما أنهي العسكرية سأتزوج .‏

تزداد ضحكتها ! ويترقرق الدمع في عينيها .‏

تصفق بيديها ساخرة وتقول باستهتار :‏

-أنت " كاكاحمه " فعلاً ... بحق وحقيق ...‏

تصمت لحظة وتسأل، والضحكة البلهاء تملأ وجهها :‏

-اتنتظر حتى ذلك الوقت !‏

شعرت بأن الاضطراب بلغ عندي شأوا يمنعني عن التفكير، ومجارتها :‏

وقفت أهمّ بالانصراف، فاستوقفتني :‏

-إلى أين ؟‏

وسألتها بدوري وأنا أتحرك، ابتعد عنها قليلاً :‏

-ماذا سأطبخ اليوم ؟‏

لوت شفتيها بامتعاض . تنهدت بعمق، وطردتني بإشارة من سبابتها :‏

-لا تشغل بالك بالطبخ . عليّ أن أطبخك أنت أولاً يا شاطر ... "‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://gt.eredan.com/?p=inscription&aw=advert_bid
 
العصفور والريح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الابداع :: منتديات ادبية :: الروايات-
انتقل الى: